مأساة محمد مرسي

عربي بوست
تم النشر: 2019/06/19 الساعة 15:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/06/19 الساعة 15:39 بتوقيت غرينتش

كانت حياة محمد مرسي، خاصة في مراحلها المتقدمة، نتاج سلسلة من المصادفات. عندما قابلته للمرة الأولى، كان يحتل مكانة مرموقة، ولكنه كان غامضاً نسبياً، ولم تكن له أهمية، خاصة في جماعة الإخوان المسلمين، وكان يسهل على المرء حينها أن يتصور أنه سيظل كذلك. إذ كان موالياً للجماعة، وموظفاً حكومياً، وملتزماً بالقانون. ثم أصبح شيئاً آخر: أول رئيس مصري منتخب، والأخير أيضاً، على الأقل في المستقبل المنظور. يظهر القادة العظام أحياناً في لحظات الأزمات والمراحل الانتقالية، ولكن ما يحدث في أغلب الأحيان هو أن الرجال والنساء البسطاء يجدون أنفسهم في وسط أحداث تاريخية، يشكلونها وتشكلهم على السواء.

انتُخب مرسي، الذي توفي في قاعة محكمة في القاهرة، يوم الإثنين 17 يونيو/حزيران، عام 2012، وأطيح به في انقلاب عسكري بعدها بعام. وكان يحمل الكثير من الصفات التي سخر منها منتقدوه، ولكن ليس كلها، فلا يمكننا أن نطلق عليه شخصية كاريزمية، ولم يكن مفكراً استراتيجياً، بل بدا رجلاً غير مناسب للمسؤولية المنوطة به على وجه التحديد. وبالعودة إلى الوراء، إذا عرف الكثيرون من جماعة الإخوان المسلمين ما يعرفونه الآن -في السجن، أو المنفى، أو بعيداً عن الأنظار- كانوا سيتمنون ألا تبادر قيادة الجماعة بتقديم مرشح للرئاسة أبداً. لكن هذا الأمر لم يكن يتعلق بمرسي كثيراً، فلم يكن يفترض بمرسي أن يصبح رئيساً.

كان رجل الأعمال خيرت الشاطر هو مرشح الرئاسة الأصلي لجماعة الإخوان المسلمين، وكان مهيب الطلعة، ويتمتع بثقة عالية، وربما بطموح كبير. وقد وصفه البعض بأنه أقوى رجل في مصر. وقد استُبعد من الترشح بسبب بعض التفصيلات القانونية، ومثل الكثير من الأمور الأخرى بدا هذا بالنسبة للجماعة تأكيداً على أن الجيش كان يسعى إلى منع صعود الإخوان بأي وسيلة ممكنة، وهكذا أصبح مرسي، الذي سخرت منه وسائل الإعلام المصرية واصفة إياه بـ "استبن خيرت الشاطر" (أي الإطار الاحتياطي)، مرشحاً بالصدفة، ومن ثم رئيساً بالصدفة.

عندما جلستُ مع مرسي في شهر مايو/أيار عام 2010، كان الديكتاتور حسني مبارك لا يزال في الحكم، وبدا أن الانتفاضة التي قد  تُجبره على التنحي غير ممكنة الحدوث. في هذه المرحلة أصرَّ مرسي على أن جماعة الإخوان المسلمين لا تطمع في السلطة، بل واعترض على استخدام لفظ معارضة لوصف الجماعة، كان القمع يتصاعد، وكانت الفرصة السياسية تتضاءل بعد سنوات من الأحداث القصيرة التي بدا أنها بداية للربيع العربي (الأول) في عامي 2004 و2005. وكانت الانتخابات البرلمانية التي أجريت في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2010، هي الأعلى تزويراً في تاريخ البلاد، إذ قلّصت حصة جماعة الإخوان المسلمين من 88 مقعداً إلى الصفر. وبدا أعضاء جماعة الإخوان المسلمين محبطين، ولكن ليسوا يائسين بالضرورة. إذ كانوا يمارسون لعبة المدى الطويل، وهي الاستراتيجية التي طالما فضلها الإخوان. ومن ناحية أخرى قادهم إغراء السلطة، هم ومرسي نفسه في النهاية، إلى سلسلة من الأخطاء وسوء التقدير.

انطلقت حملة الترشح للرئاسة في ربيع عام 2012، في مصر التي كانت تسودها الفوضى والغموض. ورغم أن جماعة الإخوان المسلمين كانت مثقلة بعبء مرشحها الضعيف، واقتصار مدة الدعاية الانتخابية على شهرين فقط، انتشر نشطاء الإخوان في جميع أنحاء البلاد، للترويج لما أطلق عليه مرسي مشروع النهضة (والذي كان "مشروع النهضة" للشاطر). وفي عرض واحد منسق لاستعراض القوة، نظموا 24 تجمعاً جماهيرياً في جميع أنحاء البلاد في الوقت نفسه في يوم واحد. وفي أحد التجمعات سألتُ أحد نشطاء الإخوان المسلمين عما إذا كان متحمساً لمرسي أم لا، فابتسم ثم ضحك.

كان من السهل تجاهل مرسي حينها، وسيكون من السهل تجاهله الآن، لأنه لم يحظ بالاهتمام الكافي، وسيكون من السهل نسيانه بعد دفن جثمانه دون ضجة، وفي ظل حكم نظام شبه شمولي، هو الأكثر قمعاً في تاريخ مصر. لكن فترة العام الوحيد التي وجد فيها نفسه في السلطة كانت غير عادية لمصر، إذ لم يكن مرسي يتمتع بالكفاءة، وكان مثيراً للاستقطاب، وتمكن من عزل الجميع تقريباً من غير المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين. وفي النهاية فشل هو والإخوان المسلمون، ولكنه لم يكن فاشياً أو فرعوناً جديداً، مثلما كان يصفه خصومه.

ففي مقال سابق لي في مجلة The Atlantic، قيمنا أنا وزميلي مرسي العام الواحد الذي قضاه في السلطة، باستخدام مؤشر Polity IV، أحد أكثر المقاييس التجريبية المستخدمة على نطاق واسع لتقييم الحكم الاستبدادي والديمقراطي، ثم قارناه بحالات أخرى. وخلصنا إلى أن "عقوداً من التحولات تُظهر أن مرسي، على الرغم من عدم كفاءته واتخاذه القرارات بناء على رأي الأغلبية، لم يكن أكثر استبدادية من زعيم انتقالي تقليدي، وكان أكثر ديمقراطية من القادة الآخرين خلال فترات التحولات المجتمعية".

لكن استمرار صبّ التركيز على مرسي، كشخص أو كرئيس، يعني تفويت شيء مهم، وازداد هذا الشيء وضوحاً لي في السنوات الخمس التي تلت كتابتنا لهذا المقال. من الجائز أن السنة قد شهدت استقطاباً وخوفاً وغموضاً لم يسبق لهم مثيل، لكن في ذلك الوقت كانت مصر تتمتع بأزهى عصور حريتها، بصورة نسبية، منذ استقلالها عام 1952. إذ كان المصريون يهتفون ويحتجون ويُضرِبون ويطمحون، ضد مرسي وله. وهذا أيضاً بالطبع هو ما جعل هذا العام مخيفاً: النزاع الفكري في جو من الحرية التامة، وما يبدو أنه تناوش مستمر بين الأفكار والأفراد، ولكن صحب ذلك أيضاً إحساس عال بالانفتاح (وانعدام الأمن الذي يصحبه). لا توجد فترة أخرى، أو حتى عام واحد، يشبه تلك الفترة. ولم يكن ذلك بسبب مرسي، ولكن لأن مصر -بمساعدة ملايين المصريين- كانت تحاول أن تصبح دولة ديمقراطية، وإن كانت غير مثالية. وكان مرسي نفسه، الذي كانت له مساوئه العديدة أيضاً، نتاجاً لتلك التجربة القصيرة. ولذا، عندما نتذكر مرسي، نتذكر معه ما ضاع.

– هذا الموضوع مترجم عن مجلة The Atlantic الأمريكية.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

شادي حامد
زميل بارز في معهد بروكينغز الأميركية
شادي حميد، زميل بمركز سياسات الشرق الأوسط بمعهد بروكينغز، ومؤلف كتاب "إغراءات السُّلطة: الإسلاميون والديمقراطية غير الليبرالية في الشرق الأوسط الجديد". عمِل سابقاً مديراً للأبحاث بمركز بروكينغز الدوحة لغاية يناير/كانون الثاني 2014. قبل عمله في بروكينغز، عمِل مديراً للأبحاث بمشروع ديمقراطية الشرق الأوسط، وقد كان زميل هيوليت في مركز التنمية والديمقراطية وسيادة القانون بجامعة ستانفورد. يشغل شادي الآن منصب نائب الرئيس لمشروع ديمقراطية الشرق الأوسط، وهو عضو في اللجنة الاستشارية للشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالبنك الدولي، ومراسل لمجلة أتلانتك.عمِل حميد أيضاً خبيراً في برنامج الدبلوماسية العامة بوزارة الخارجية الأمريكية، وزميلاً تشريعياً في مكتب السيناتور ديان فينستين. ظهرت كتاباته في "النيويورك تايمز"، و "ذا واشنطن بوست"، و "ذا أتلانتك"، و "فورين بوليسي"، و "ذا نيو ريببلك ستيت"، و "فوربس"، و "ذا ناشونال إنترست"، و "بوليسي رفيو"، و "ديموقراسي: جورنال أوف أيدياز"، بالإضافة إلى العديد من الدوريات والمجلات العالمية. حصل حميد على شهادة البكالوريوس والماجستير من كلية الشؤون الدولية بجامعة جورجتاون، وشهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة أوكسفورد.
تحميل المزيد