«يا واد يا رشاد» رسالة إلى صديقي السوداني

عربي بوست
تم النشر: 2019/06/17 الساعة 14:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/06/17 الساعة 15:14 بتوقيت غرينتش
جميعنا عرف كيف يثور، لكن لا أحد عرف كيف يتم ثورته !

"يا واد يا يوسف" التي يقولها صديقي السوداني رشاد كلما رآني، و"واد يا رشاد" حين أرد عليه بها محاولاً تقليده بلهجته السودانية العذبة، يجمعنا مطعم السكن ومسجده، تجمعنا موائد إفطار الطلبة في رمضان، يجمعنا الانتظار في محطة الحافلات، يجمعنا الضحك بأعلى صوتِه على كل كلمةٍ أقولها، نتجاذب الحديث عن "موسم الهجرة إلى الشمال"؛ أتكلم معه فيها عن الأدب، ويتكلم هو عن الرواية نفسها لكن عن "قلة الأدب"، كأي شابين يجتمعان وبينهما شعورٌ مريحٌ بالصداقة.

يقول إنه لا يحب القراءة، لكنني لم أره إلا فصيح اللسان، يرد على الكلام العادي بأبيات الشعر، ويتلو النثر عن ظهر قلب. لم تكن السياسة محور حديثنا أبداً، حتى قامت الثورةُ وارتقى أول شهيد. كنتُ متلهفاً لأرى الصديق الذي يحب الطعام ويسمي نفسه "أشعب"، وله في المرح عالم كامل، هل تشغله السياسة؟

لأول مرةٍ أراه شاحب الوجه وابتسامته مقتولة على ثناياه؛ لا يستطيع إخفاءها لأنه بشوشٌ بطبيعته، ولا يستطيع إعلانها لأن الوطن يبكي. وجدته متحمسّاً لفتح الحديث عما يحدث، مجمعاً خيوط اللعبة ليعرضها أمامي، يقص عليَّ أنباء الثورة كأنه مذيع، ويفسر لي الأخبار العاجلة كأنه مراسل، والحقيقة أنه لم يكن مذيعاً ولا مراسلاً، وإنما شاب سوداني يحمل وطنه في صدره. كان سؤالي هل سيهتم صديقي المسالم بالسياسة؟ فجاءني جوابُه واضحاً: وهل الثورة سياسة؟ الثورةُ قضيةُ إنسان، والسوداني بطبعه ثائر.

أخبرتُه أنَّ الوضع لا يبشر، قال بحسم: "لا، نحن لن نترك الشارع". لم أتراهن معه؛ فكلانا يأمل أن يخيب ظني وينتصر الشباب. قبل العيد فُض الميدان، كنتُ حذرتُه من ذلك، ليس من باب الحكمة وإنما من باب التشاؤم. وجدته ناشراً صورتين متجاورتين؛ إحداهما للشهداء بمستشفى رابعة الميداني، والأخرى للشهداء أنفسهم مع اختلاف ألوانهم وأسمائهم، للمستشفى الميداني باعتصام القيادة العامة، عزَّيتُه في مصابه والحقيقة أنني كنت أعزي نفسي من خلاله، فالجرح أعمق حين يكون بموضعين قريبين في جسم واحد.

أقول: إن كانت هناك أُخوَّةٌ من الدم وأخوة من الرضاعة، فلماذا لا تكون هناك أخوة من الماء؟ من النيل الذي يجمعنا حين تفرقنا الحدود. أخوةٌ من الماء الذي لا يسكن أجوافنا إلا بعد أن يمر بهم ليكون عذباً، ولا نشرب إلا بعد ارتوائهم ليكون مباركاً.

إننا لم نعرف عناد الثائر إلا حين رأيناهم، فعلمونا معنى مواصلة الطريق إلى آخره ما دمنا دفعنا التذكرة. ألم نثر؟ بلى، ثرنا، وجميعنا يعرف كيف يثور، لكن لا أحد عرف كيف يتم ثورته، جميعنا قال: "يسقط" لكن لا أحد غيرهم قال "يسقط تاني، يسقط تالت"، جميعنا قال "الرصاصة لا تقتل الشهيد وحده وإنما تحرق قلوب الذين يحبونه معه"، إلا هم؛ قرروا: "الطلقة ما بتحرق"، جميعنا كربلاء، ووحدهم الثأر.

في عيونهم نرى الليل، نرى شوارع الخرطوم مستقبلةً بصدرها العريض المساء والسماء، في حناجرهم نسمع أذان الفجر، نسمع أنفاس الملكات السمراوات منكبَّات على آنية الطعام يعددنه للأولاد الثائرين، في أياديهم نشم رائحة الخبز وتأسرنا رائحة السمسم، تهيج أنوفنا رائحة العصيدة وتهدئ أسماعنا أبيات القصيدة. في عيونهم وجدنا كل ما بحثا عنه.

"زول" في اللغة، هو الرجل الذي يجمع الذكاء مع الشجاعة، والفطنة مع السماحة، خفيف الحركات، القوي الذي يزول الناس من شجاعته، هو الذي يُضرِب بالنهار عن العمل، ويهتف بالمساء في الميدان، هو الذي يصلي الجنازة على صاحبه عصراً، ويرقص بالعصا بعد العشاء، هو الذي تسمع منه صوت الهتاف فتخاف، وترى وداعة الدموع المترقرقة في عينيه فتشفق عليه، هو "الواد رشاد"، وكل "واد" يحمل في صدره سواد الأرض وزرقة النيل وحمرة الدم وخضرة السنابل، هو "الطيب صالح" وكل طيبٍ صالح، هو "موسم الهجرة إلى الشمال"، وموسم الإقامة في الجنوب، هو كل جميلٍ أسود ينفي كل قبيحٍ أسود، ليخرج للعالم في "توبه" ناصع البياض.

ذلك كان "الزّول" كما علمونا إياه اسماً وصفةً، وبقي أن يعلمونا معناه في الأفعال. ففعل "زَوَلَ" هو فعل التنحية والإبعاد، و"الزوال" هو الوقت الذي تتربع فيه الشمس في كبد السماء.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يوسف الدموكي
كاتب وصحفي مصري
كاتب وصحفي مصري، تخرج في كلية الإعلام، قسم التلفزيون والسينما، يعمل بالصحافة وكتابة المحتوى والسكريبت، نُشر له 3 كتب مطبوعة، وأكثر من 200 مقال.
تحميل المزيد