أنا والساروت.. تلاقينا على عجلٍ

عربي بوست
تم النشر: 2019/06/13 الساعة 13:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/06/13 الساعة 13:40 بتوقيت غرينتش
الثورة تفيض بالإرهاق والمتعة معاً.. والساروت ذهب مرهَقاً ومستمتعاً بالاستشهاد.

حينما عبَرتُ الحدود ضمن قافلة طبية لأداء مَهمة صحفية، رَمت بي الأقدار إلى قرية تقع بين شقَّي رحى وحِصارٍ، من أحد أطرافها كتائب لحزب الله ومن الطرف المقابل قوات نظامية تابعة للجيش السوري التابع لبشار الأسد، وفي منتصف القرية من الأرض كتائب مقاتلة، وقوافل طبية، وصحفيون أجانب، أنا وعبدالباسط الساروت في فيلا نِصفِ مقصوفة.

إنها سوريا.. جحيم الربيع، ودُرة الثورات.

للوهلة الأولى لم أتعرف عليه، كنت مع جزائري طيلة فترة ما بعد صلاة العصر، نبحث عن جبلٍ نلتقط منه إشارة هاتف، كي نتواصل مع العالم الخارجي.

قُبيل المغرب، ظلام، طرق معبَّأة بالتراب، رائحة قصف مكدَّسة بالزوايا وذكريات الشهداء على الجدران، كنا نشقُّ طريقنا إلى فيلا نمكث فيها ضمن فريق القافلة الطبية لتوزيع المساعدات.

دخلنا إلى الفيلا، ثمة عشرات الأصوات واللهجات تحاصرنا من كل زاوية، التقطنا أنفاسنا وإذا بجزائريٍّ آخَر كان بالفيلا اقترب منا وأشار إلى الزاوية: “هذا الساروت مُنشد الثورة، وصل منذ قليل هنا إلى المقر”.

كانت زاوية الساروت كالتالي: كئيبة، خافتة، تُظللها شجرة كرز أحمر شاحبة النُّضرة، ويغلب عليها اعتياد الصمت.

يجلس على أحد الأقسام المهدَّمة من الفيلا الساروت، سلاحُه الكلاشينكوف مُسنَدٌ على يساره من الأسفل، وكان عبدالباسط بيده ثمرة خوخ يقلّبها بين يديه.

تحرَّكنا على مَهلٍ أنا والجزائري تجاه عبدالباسط.

“سلامٌ عليكم يا شيخ”.. هكذا بدأتُ معه الحديث.. إنها نبرة صوت معتادة بين الشباب في مثل هذه المناطق بمثل تلك الظروف، في خِضمِّ تلك الجموع من الشباب من مختلف الجنسيات.

ردَّ عليَّ: “مرحباً خوي مرحباً”.. دار حديث قصير عن طريقنا عبر الحدود إلى هذا المكان المحاصَر، لم تفاجئه حكايتنا كثيراً؛ فوميض المغامرة عاشه هو عشرات المرات واستمع إلى مثيلاتها ربما كثيراً، كان سؤال رفيقي الجزائري له عن سبب إرهاقه الشديد البادي عليه.

فردَّ: “هذا هَمُّ حمص وجبهة حمص”.

الخالدية، وباب السباع وكثير من الثورة بين زوايا المدينة القديمة، وددنا لو قصَّها علينا.

المُظاهرة الأولى، الهتاف الأول، طلقة الاغتيال، الشهيد المَزوي بعيداً، الأُخوَّة في الحياة الأخرى، رائحة الأمومة المُفتقدة، أعمدة الدخان من بعد القصف التي تتعبد إلى السماء، وحكاية عبدالباسط.

لم يتحدث وعلينا نحن أن نُطلق العنان للخيال، لم نُطلق.

استأذن في أدب بعد أن حيَّانا، استأذنته، كان مُرهِقاً ومرهَقاً وعابراً.

في الكَفنِ كانت عيون عبدالباسط ما زالت مرهَقة كأنه لم يغفُ مُذ هذا اللقاء.. لم يَسكن، رحلَ مُحملاً بالشظايا، رصاص الجبهة، خلافات الكتائب، صوت التعميم على القبضة، حشرجة الماخشير، كثير من اللهجات مُخزنة عنوة بعقله، وحِلمٌ بالاطمئنان.

الثورة تفيض بالإرهاق والمتعة معاً.. والساروت ذهب مرهَقاً ومستمتعاً بالاستشهاد.

أنا والساروت.. تلاقينا على عجلٍ

أنا والساروت.. تلاقينا على عجلٍ

عربي بوست
تم النشر: 2019/06/13 الساعة 13:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/06/13 الساعة 13:40 بتوقيت غرينتش
الثورة تفيض بالإرهاق والمتعة معاً.. والساروت ذهب مرهَقاً ومستمتعاً بالاستشهاد.

حينما عبَرتُ الحدود ضمن قافلة طبية لأداء مَهمة صحفية، رَمت بي الأقدار إلى قرية تقع بين شقَّي رحى وحِصارٍ، من أحد أطرافها كتائب لحزب الله ومن الطرف المقابل قوات نظامية تابعة للجيش السوري التابع لبشار الأسد، وفي منتصف القرية من الأرض كتائب مقاتلة، وقوافل طبية، وصحفيون أجانب، أنا وعبدالباسط الساروت في فيلا نِصفِ مقصوفة.

إنها سوريا.. جحيم الربيع، ودُرة الثورات.

للوهلة الأولى لم أتعرف عليه، كنت مع جزائري طيلة فترة ما بعد صلاة العصر، نبحث عن جبلٍ نلتقط منه إشارة هاتف، كي نتواصل مع العالم الخارجي.

قُبيل المغرب، ظلام، طرق معبَّأة بالتراب، رائحة قصف مكدَّسة بالزوايا وذكريات الشهداء على الجدران، كنا نشقُّ طريقنا إلى فيلا نمكث فيها ضمن فريق القافلة الطبية لتوزيع المساعدات.

دخلنا إلى الفيلا، ثمة عشرات الأصوات واللهجات تحاصرنا من كل زاوية، التقطنا أنفاسنا وإذا بجزائريٍّ آخَر كان بالفيلا اقترب منا وأشار إلى الزاوية: "هذا الساروت مُنشد الثورة، وصل منذ قليل هنا إلى المقر".

كانت زاوية الساروت كالتالي: كئيبة، خافتة، تُظللها شجرة كرز أحمر شاحبة النُّضرة، ويغلب عليها اعتياد الصمت.

يجلس على أحد الأقسام المهدَّمة من الفيلا الساروت، سلاحُه الكلاشينكوف مُسنَدٌ على يساره من الأسفل، وكان عبدالباسط بيده ثمرة خوخ يقلّبها بين يديه.

تحرَّكنا على مَهلٍ أنا والجزائري تجاه عبدالباسط.

"سلامٌ عليكم يا شيخ".. هكذا بدأتُ معه الحديث.. إنها نبرة صوت معتادة بين الشباب في مثل هذه المناطق بمثل تلك الظروف، في خِضمِّ تلك الجموع من الشباب من مختلف الجنسيات.

ردَّ عليَّ: "مرحباً خوي مرحباً".. دار حديث قصير عن طريقنا عبر الحدود إلى هذا المكان المحاصَر، لم تفاجئه حكايتنا كثيراً؛ فوميض المغامرة عاشه هو عشرات المرات واستمع إلى مثيلاتها ربما كثيراً، كان سؤال رفيقي الجزائري له عن سبب إرهاقه الشديد البادي عليه.

فردَّ: "هذا هَمُّ حمص وجبهة حمص".

الخالدية، وباب السباع وكثير من الثورة بين زوايا المدينة القديمة، وددنا لو قصَّها علينا.

المُظاهرة الأولى، الهتاف الأول، طلقة الاغتيال، الشهيد المَزوي بعيداً، الأُخوَّة في الحياة الأخرى، رائحة الأمومة المُفتقدة، أعمدة الدخان من بعد القصف التي تتعبد إلى السماء، وحكاية عبدالباسط.

لم يتحدث وعلينا نحن أن نُطلق العنان للخيال، لم نُطلق.

استأذن في أدب بعد أن حيَّانا، استأذنته، كان مُرهِقاً ومرهَقاً وعابراً.

في الكَفنِ كانت عيون عبدالباسط ما زالت مرهَقة كأنه لم يغفُ مُذ هذا اللقاء.. لم يَسكن، رحلَ مُحملاً بالشظايا، رصاص الجبهة، خلافات الكتائب، صوت التعميم على القبضة، حشرجة الماخشير، كثير من اللهجات مُخزنة عنوة بعقله، وحِلمٌ بالاطمئنان.

الثورة تفيض بالإرهاق والمتعة معاً.. والساروت ذهب مرهَقاً ومستمتعاً بالاستشهاد.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد الطوخي
صحفي مصري
صحفي مصري
تحميل المزيد