عبدالباسط الساروت.. والموت في المرمى

عربي بوست
تم النشر: 2019/06/09 الساعة 12:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/06/09 الساعة 12:04 بتوقيت غرينتش
هل يحق للموتى أن ينعوا الأحياء؟ هل تُكتَب قصائد الرثاء في الذين لا يموتون؟


في الروايات الفائزة بـ "البوكر"، الحائزة لقبَ أكثر رواية غير عادية، يموت البطل، وتبقى الروايةُ كالبندقية، يسقط حاملها، وتقف وحدها حية.

هل يموت البطل؟ هل تنتهي الحكاية معه؟ هل يدفنون سلاحه بجواره أم يورِّثونه لصديقه؟ هل يَحثون على وجهه التراب أم الزهور؟ هل يحملونه على أكتافهم أم يصحبونه معهم ماشياً حتى يصافحهم ويستأذن، ثم يعانق أمه، وينام؟ هل الرواياتُ تنتهي عند الفصل الأخير أم تبدأ؟ هل حين يموت المنشد يخطبون على قبره أم يغنون أنشودته؟

"جنة جنة جنة، جنة يا وطنّا، يا وطن يا حبيّب، يا بو التراب الطيب، حتى نارك جنة، حتى نارك جنة"، كانت هذه هي الثورة السورية بالنسبة لنا حين "سمعناها" لأول مرة، هذا هو صوتها، وذاك سلامها الوطني ونشيدها الرسمي، والصوت؟ الصوت كان لعبدالباسط.. فعلى ما يبدو أن لكل عبدالباسط حنجرة، لها دور محدد في "الكورال"، الأول عبدالباسط الذي حدثنا عن الجنة التي في السماء، والثاني عبدالباسط الذي حدثنا عن الجنة التي في الأرض.

هل يحق للموتى أن ينعوا الأحياء؟ هل تُكتَب قصائد الرثاء في الذين لا يموتون؟ أشعر أنه لا شيء أكثر من الدموع قادر على إجابة الأسئلة وقَص الحكاية، ليست دموعاً كالتي تجري عادةً في كربلائيات الموت، وإنما هذه المرة تذرف للحياة؛ لأن مثله لا يُغسَّل إلا بالعيون.

في نادي الكرامة كان واقفاً، يحرس المرمى، إلى أن أذَّن مؤذن الثورة، فجرى اللاعبون واختفى الحكم، وبقيت الصافرة، والكرة تجري وحدها في الملعب، قفزت الجماهيرُ لتلتقطها فسقطوا من السور الحديدي كالحمام، لم يكن موتاً عفوياً، وإنما بطلقات أفراد الأمن المخصصين لحماية سير المباراة. الرصاص يفنى ولا يفنى الناس، لو كل رصاصةٍ أصابت عشرةً حتى فستنتهي الذخيرة لا مفر، فمن المعلوم بالضرورةِ أن عدد الجنود مهما كبر، وكتائب الجيوش مهما تعددت أرقامها وأسماؤها يبقى الشعب أكثر منها مليون مرة.

يحاول العساكرُ أن يغتالوا الكرة، يلتف حولها الناس فيسقطون وترتفع، يحاول قناصٌ ماهرٌ ملعون أن يصيبها، فتسقط مثقوبةً وصوتها يعلن موعد الجنازة، يَجري إليها الحارسُ، يُجري لها عملية إنقاذ سريعة، يقطع من جلده ليرتقَ جرحها، ينفخ فيها فتعود حيةً بإذن الله، يضحك كالأطفال، يحتضنها كأنه لعبته التي لا هزل فيها، ضمّها وينام بها على بطنه، يسيل دمه لكن يبدو أنه لا يشعر، كيف لا يشعر؟ معذرةً، أقصد أنه -بالتأكيد- يشعر بالجرح لأنه عميق، ويشعر بدمه لأنه كالنافورة، لكنه لم يكن يبالي.

ثماني سنواتٍ فقد فيها أباً وخمسة من إخوته، هأنذا أقولها في جملةٍ خبرية وتقرأها، ولا أنا ولا أنت سيدي القارئ نعرف ماذا يعني الفقد، ولا ماذا يعني الفقد إن كان بالجملة.

أُكمل سيرته وأقول: قاتَلَ في حمص وحوصر لعامين ثم بعدها هُجِّر إلى حماة، فقاتل فيها إلى أن مات متأثراً بجراحه، هل تدري كيف تُحمَل البندقية؟ كيف تُصوَّب على الهدف؟ كيف تنهد الحجارة فوق رأسك حين يُقصَف المتراس الذي تحتمي به؟ كيف ترى صاحبكَ غارقاً في دمه وينظر إليك النظرة الوديعة المودعة ثم يموت؟ كيف تؤكَل أوراق الشجر؟ وكيف تُغلى؟ كيف يكون وقت المباراة مفتوحاً ولا فرصة لاحتساب وقتٍ إضافي؟ كيف تلعب ضد ألف فريقٍ في مباراةٍ واحدة؟ كيف يكون المدافعون أمامك بعكازات؟ وكيف تقف بين الثلاث خشباتٍ بلا قفازات؟ وكيف تهاجَم بكرات النار بدلًا من كرات الهواء؟

أُكمل وأقول: إلى أن مات. فهل تدري كيف تموت الأشجار؟ كيف لا ينكسر البامبو؟ كيف لا يتغير لون الياسمين؟ وكيف لا يتغير طعم القصب؟

الآن اسمح لي أن أشاركك البكاء، من أول فقرةٍ وأنا أقاوم، لكنني الآن أستسلم وأنا أسمع أمه تودعه، سمِعَتْ خبر إصابته، قالت: أين؟ قالوا: في يده، قالت: أعطوه يدي!

الآن نبسط أمامك أيادينا وعيوننا وقلوبنا، نبايعك، نغطي جسد عبدالباسط برموشنا، نغسله بماء الورد، ونزفه بصوته، نودعه على معبر "باب الهوى"، بعد أن صعدت روحه في "الريحانية"، ولا نخطب على قبره بل نغنى أنشودته: "جنة جنة جنة".

اليوم مات الحارسُ، وغداً تحييه الجماهير، يسأل: "النتيجة كم لِكَم؟" يقولون: "واحدٌ هو أنت، وصِفر هو عدد من تبقى منهم. غنِّ يا عبدالباسط، الآن انتصرنا".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يوسف الدموكي
كاتب وصحفي مصري
كاتب وصحفي مصري، تخرج في كلية الإعلام، قسم التلفزيون والسينما، يعمل بالصحافة وكتابة المحتوى والسكريبت، نُشر له 3 كتب مطبوعة، وأكثر من 200 مقال.
تحميل المزيد