الجمعة في ديارنا.. الصوت والطعم والرائحة

عربي بوست
تم النشر: 2019/05/31 الساعة 12:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/05/06 الساعة 08:16 بتوقيت غرينتش
الجمعة في قاموسنا "الحويط" هي هذا المزيج من اللون والشكل والرسم والصورة والحكاية

صوتُ القرآن يأتي من المسجد القريب، وصوتُ التواشيح يأتي من راديو جدتي، وصوتُ مياه الاستحمام يأتي من الحمام، وصوت الغسالة المزعجة يأتي من أمام الحمام، وصوت القلي يأتي من المطبخ، وصوت إيقاظ "خُم النوم" يأتي من عمي، وصوت "جمعة مباركة" والدعوة لدخول البيت "تعالَ نفطر سوا – بالهنا والشفا تسلم – طب الشاي ع النار – الله يخليك – والله لتدخل – لو ما كُنتش تحلف؟" يأتي من الشارع، وعلى التلفازِ يطوف الناسُ حول الكعبة، تقول جدتي: "ربنا يكتبها لنا ويكتبها لكل مشتاق"، لا تقول: لكل مَن يريد، فالإرادةُ غير الشوق، الشوق أعلى من الإرادة. صوتُ العيالِ يأتي من أمام البيت، وصوت الكرةِ يعلن عن إصابة ضحيةٍ جديدةٍ من المصابيح، يتلوها هروبٌ جماعي.

رائحةُ الطعمية تغزو "النخاشيش"، ورائحة الهواء في مدخل الدار تسكن الرئتين في هدوء، ورائحة معجون حلاقة أبي تجعل من صالون البيت صالون حلاق، ورائحة البخور من غرفة جدتي ينقصها "كتكوووت" لتكتمل حفلة الزار، ورائحة الغرفةِ المكتومةِ تشعل ثورة أمي على فتح الشبابيك بأقصى سرعة مع وابلٍ من الشتائم لـ "العجول النائمين حتى الآن"، ورائحة الغسيل توحي بشعورٍ نظيف، ورائحة "شِياط" شيءٍ ما على النار تجعل جدتي تنادي: "يا بنتي شوفي فيه حاجة اتحرقت".

طعمُ الفولِ يذيب الحواجز كلها من حاسة التذوق، وطعم حموضة الطعمية في الصدر يشعل ناراً يستعينُ أبي على إطفائها بتناولِ خيارتين، وطعم الماءِ في كوب الألومنيوم المغسولِ قبل قليل بالصابون والكلور يعلن بدء "خناقة" بخصوص الإهمال و "بتشرّبونا سم" سرعانَ ما تُخمدها أمي بـ "حقك عليّا"، وطعمُ الشاي الثقيل يؤدب حركة الجهاز الهضمي كله ويُمسك بتلابيبه، وطعمُ النعناع على الدور الثاني من الشايِ يجعل عمي يتغزل في فوائده ويذكر لنا قصة حبه معه التي بدأت قبل أربعين عاماً، وطعم حبة فلفل أسود في الطعام تسللت إلى أسنان أبي تعيد الحرب إلى مضمارها، لكن متابعةَ عمّي حديثه عن النعناع والريحان والقرنفل تتجاهل الحربَ فتخمد من جديد، وتغلبُ حَبةُ البركةِ حبةَ الفلفل.

جلسة أبي أمام "الطبلية" في المنتصف تحكي عن صدارته للمشهد، وجلسة عمي بجوارهِ تحكي عن عقلانية الأخ الأكبر، وجلسة جدتي على يمينه تؤكد أن في اليمين بركة، وجلسة أمي مقابلَه تقول إنها على أهبة الاستعداد لجلب أي طعامٍ ينقص أو طلبٍ يراد وهي الأقرب للمطبخ، وجلسة العيال وتنازعهم على جوار الجدة أو الأم أو الأب تقسمهم إلى فئات: "عين سِته، حبيب أبوه، ابن أمه".

ضحكةُ جدتي التي يتزامن معها الكثير من رقرقة العيون وجمل من نوعية "يجعله خير" تحكي عن الحكمة العجوز الممزوجة بالروحِ الحلوة التي لا تشيب، وضحكة عمي المرتفعة تقول إنه ينتهز الفرصةَ ليُطلِّق همه كله بالثلاثة ويعلن الرضا عن كل شيء، وضحكة أبي التي يتخللها السعال وتَكرار الجملة المضحكة تحكي عن قلبِه الطيب الذي لا يريد لـ "القعدة الحلوة" أن تنتهي، ويخاف أن تنتهي، وضحكةُ أمي ثم سؤالها وسط الضحك عن تفاصيل أكثر في الحدث تجعل الحديث يطول ويطول، وضحكة العيال تجعلهم يكبرون لثوانٍ؛ لأنهم يشاركون الكبار الضحك على الذكريات، وضحكة الصغار –أو الصغرَّة في قاموس جدتي- تُضحك أكثر، مِن فرط سذاجتهم، لأنهم قَطْعاً لا يفهمون ما يُحكى لكنهم يريدون الشعور بوجودهم في هذا المحفل، ثم يبالغون في الضحك حتى يدخل ضحكهم نطاقَ "العبَط"، مما يجعل أمي توبخهم بجملتها الخالدة: "هنسُوق الهبَل على الشيطنة ولّا إيه؟".

الحمامُ مشغولٌ دائماً، أحدُ الأولادِ يدفعونه إلى الاستحمام دفعاً، تصريحاً وتلميحاً، وأحدهم يهددونه بقطع المياه إلم يخرج حالاً لأنه منذ نصفِ ساعةٍ بالداخل. آخرُ العنقود الصغيرة تفرك عينيها وهي خارجةٌ من الغرفةِ، تهم أن تزمجر كعادتها لكنها تمنح النكد إجازةً، وتخطو نحو حجرِ "ستها" كأنَّ أباها شفاف لا تراه.

تمرُّ جارةٌ طيبة، جلستها حلوة وروحها عذبة وكلامها مضحك للكبارِ، ومضحك جدا للصغار، تارةً لأن حركاتها في أثناء الحديث تضحكهم، وتارة لأن الكبار يضحكون، تناديها الجدة، تقسم عليها: "حلِّفتك بالغالي لتيجي"، فتجيء، تجلس بجوارها وتعلن –بمقدمة مشوقة- بدء الحديث، في اللحظة ذاتها يدخل الأخ الأكبر أخيراً بعد عودته سالماً من معركةٍ على الطعمية والفول، يتركهما في المطبخ لأمه ثم يشرع في الحكي عن مغامرته قاصداً أن يمتنَّ له البيتُ فرداً فرداً على بطولته.

تتزين الجدة كأن الموتى يأخذون إجازة من المقابر نهاية الأسبوع ويحضرون للسلام على الأحياء، تحكي للجميع عن المرحوم، عن صوت خطوته في الشارع، وصوته في المناسبات، و "رَوَقانه" في الجمعة، وصورته التي لا تفارقها، وسُعاله كلما دخل البيت والذي ما زال في أذنها، وعن يوم تقدمه لطلب يدها وهي ابنة اثني عشر عاماً تلعب أمام الدار… "هيه يا غالي، ألف رحمة ونور عليك".

الجميع يأكل، والجميع يضحك، والمنشاوي يشاركهم الجلسة، ولو ذهب بصوتِه أبعد من ذلك درجةً واحدةً لحفظوا له نصيبه من حبات الطعمية؛ لأن حقيقة حضوره غلبت حقيقةَ وفاته. يتذكرون الماضي وحلاوته، يتذكرون النوادر المضحكة، المميتة ضحكاً، يضحكون حتى يدمعوا، ثم يدمعون حتى يضحكوا، ويقولون معاً: "يجعله خير إن شاء الله".

مَن يقول إنه "يوم" الجمعة؟ ليس يوماً، هو شعور يجعلنا إذا كان الثلاثاء عطلة واجتمع البيتُ على المائدة قلنا: "مش النهارده الجمعة"؟ يهز أبي رأسه نافياً، فنقول: "بس الجو جو جمعة".

الجُمعة في القاموس المُحيط اليومُ السابع من أيام الأسبوع، والجمعة في قاموسنا "الحويط" هي هذا المزيج من اللون والشكل والرسم والصورة والحكاية، هذا "الكوكتيل" من الصوت والطعم والرائحة، هي تلك الطقوس التي نسلم فيها -بزيادة- على النبيّ، ثم يسلم علينا كل هؤلاء الذين ما إن يدخلوا باب دارنا حتى تقول جدتي: "إحنا زارنا النبي"، هي تلك التفاصيل التي تخلق يوماً خفيفاً يقف عنده الدهرُ كل أسبوع فينسينا الستة أيام التي سبقته، ويذكرنا بنفسه وحده، يقول لنا: يا حبايب النبي اجتمعوا، يا نَسايب النبي ارتاحوا.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يوسف الدموكي
كاتب وصحفي مصري
كاتب وصحفي مصري، تخرج في كلية الإعلام، قسم التلفزيون والسينما، يعمل بالصحافة وكتابة المحتوى والسكريبت، نُشر له 3 كتب مطبوعة، وأكثر من 200 مقال.
تحميل المزيد