إنها صفقة تجارية.. هكذا يوحي الاسم الذي اختاره الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للخطة التي يسعى من خلالها إلى تصفية القضية الفلسطينية، وإنهاء الصراع المستمر منذ سبعين عاماً بين دولة الاحتلال والشعب الفلسطيني. ولا عجب أنِ اختار ترامب هذا الاسم، وهو الذي يرى أن السياسة تُدار بالمال، وأن كافة المشاكل يمكن أن تُحل بالمال والمصالح، وأن العلاقات أيضاً تُدار بالمال، وبالمال فقط. وقد كان ذلك واضحاً في علاقته مع دول الخليج، فضلاً عن تصريحاته المتتالية التي يصرِّح فيها بأن دول الخليج إنما تدفع ثمن الحماية التي تقدِّمها الولايات المتحدة لها منعاً لسقوط الأنظمة الحاكمة.
إذن، هكذا يرى ترامب المدخل والمخرج لحلِّ القضية الفلسطينية. وليس من باب التكهن القول إن "الصفقة" صِيغت بأيدٍ أمريكية، ولكن مضمونها هو الأفكار الإسرائيلية. فهي تُقدم لإسرائيل كل ما تريده على طبق من ذهب، وتُعطي الفلسطينيين ما ترى إسرائيل أنهم لن يحصلوا على سواه. وفي الحقيقة أن الولايات المتحدة، التي يتربَّع على عرش إدارتها رجل متهوّر ومغامر، بالإضافة إلى ارتمائه الكامل هو وفريقه بأحضان إسرائيل، إنما ترى الأمور بعينَي إسرائيل. فهي مُشبعة بالأفكار والأيديولوجيا الإسرائيلية حتى النخاع، ولا تستطيع أن ترى ما دون ذلك. فاستخدام الاحتلال للقوة الهائلة في تدمير بيوت الفلسطينيين على رؤوس ساكنيها، وقتلها للشبان والأطفال والنساء هو دفاع عن النفس. أما قيام طفل فلسطيني برشق حجر على جيش الاحتلال فهو إرهاب يجب التصدي له.. إلى آخره من المشاهد والقصص التي بات يعرفها القاصي والداني.
لا داعي لمزيد من الحرج
المشكلة التي يراها الأمريكان (ومِن ورائهم دولة الاحتلال) أنه لا يوجد في هذا العالم دولة تحتل دولة أخرى سوى ما يحدث في فلسطين، وأنه لا توجد دولة تقوم يومياً باعتقال العشرات من أبناء شعب آخر إلا في فلسطين. هذا المشهد يضع دولة الاحتلال والولايات المتحدة في "خانة اليك"، رغم كل ما تقومان به من جهود لتبرير سياساتهما. فهما، وبكل وقاحة، يضعان المظلوم في فقص الاتهام، وينصّبان من المجرم قاضياً عادلاً، بل إنساناً مدافعاً عن قيم الحق والعدالة. ولكنهما يعيان تماماً أن العالم يرى الحقيقة، وإن كان عاجزاً عن مواجهة المنطق الأمريكي والإسرائيلي، بسبب "منطق القوة" الذي تفرضه الولايات المتحدة على العالم.
إذن، من المنظور الأمريكي، يجب وضع حدِّ لهذه المشكلة التي تُحرجهم باستمرار أمام المجتمع الدولي، والتي تتسبب بإدانات مستمرة لسياساتهم في دعم الاحتلال والظلم والقهر والإرهاب. فكانت "صفقة القرن" التي تسعى لترتيب أجندة المنطقة بأسرها حول مركز الدائرة: فلسطين، وتُخرج إسرائيل من المأزق المزمن، وبرميل البارود الذي تجلس عليه، وتتسبب في حدوث التوتر الدائم على المستوى الإقليمي والدولي.
وقد نشرت وسائل الإعلام تسريبات حول تفاصيل الصفقة، وهي تفاصيل منطقية جداً من المنظور الأمريكي، وبرأيي هي فعلاً تفاصيل الصفقة التي صاغها الأمريكان بإيحاء من دولة الاحتلال. وتتضمن إنشاء "دولة" فلسطينية لا سيادة لها على الأرض، ومنزوعة السلاح، وضم الأراضي التي تُقام عليها المستوطنات إلى دولة الاحتلال، وغير ذلك من التفاصيل. وحيث إنها "صفقة" فإن تمويل الجزء الأكبر منها يقع على عاتق العرب (الذين سيدفعون المال مقابل الحصول على الراحة من الصداع المزمن الذي تُسبّبه لهم القضية الفلسطينية، والاستنزاف المستمر لأموالهم في دعم الفلسطينيين). وعلى الفلسطينيين، السلطة وحماس، التوقيع عليها. وتتضمَّن تهديدات خطيرة لمن لا يوقِّع، وإغراءات مادية لمن يُوقع.
وبالطبع، من الواضح أن ترامب لا يرى أي ضرورة للتشاور مع الطرف الفلسطيني، أو حتى الطرف العربي، وهو الطرف الأضعف في المعادلة، لكن لم ينفِ وجود أصابع إسرائيلية في هذه الصفقة التي تلبِّي كلَّ مطالب إسرائيل في السيطرة على الأرض، وضمان عدم وجود ما يهدد أمنها. بل إنه يضرب عرض الحائط بالمجتمع الدولي بأسره، ولا يعمل على إشراك حلفائه حتى بصياغتها أو آليات التنفيذ، وهي الآليات التي تنفّذها الدول العربية والاتحاد الأوروبي.
والصفقة التي نراها، نحن الفلسطينيين، أوهاماً ومؤامرة، هي نموذج مثالي بالنسبة للولايات المتحدة لحل الصراعات. فالكل، حسب منطقهم، يخرج كاسباً من هذه الصفقة. فما الذي يريده الفلسطينيون أكثر من دولة؟ حتى لو كانت على جزء من الأرض، أو كانت من دون القدس. أما قضية اللاجئين فهي محلولة من وجهة نظرهم، حيث إنه مرَّ على وجودهم في الشتات أكثر من سبعين عاماً، وبالتأكيد تأقلموا هناك، ومن الصعب عليهم العودة بعد كل تلك السنوات. ويرى الأمريكان أن الرخاء الاقتصادي هو مفتاح السلام، حيث سيعيش الفلسطينيون في دولة مستقرة، لا تختلف كثيراً عن موناكو، الإمارة التي يعيش شعبها بأمان في ظلِّ الحماية الفرنسية. وسيتم بناء جسر بين الضفة وغزة، وسوف تُفتح الآفاق أمام الفلسطينيين للتنقل بحرية، وتطوير تجارتهم وحياتهم. فما الضير في ذلك؟ إن أي انتقاد لهذا المشهد بالنسبة للأمريكان هو انتقاد غير مفهوم. فما الذي يريده أي إنسان سوى العيش بسلام؟
المصالح.. وليس المبادئ
الأمريكان لا يعرفون شيئاً عن الحرية والاستقلال. ولا يفهمون معنى المبادئ، سوى مبدأ المصالح. وهم يستغربون سبب تمسّك الشعب الفلسطيني بثوابته، فهذا كله مجرد شعارات لا تُسمن ولا تُغني من جوع. الأمريكان يقولون: أليس ذلك هو ما أدى إلى المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون؟ عليهم (أي الفلسطينيين) أن يعوا أن "المقاومة" لن تؤدي إلا إلى مزيد من المعاناة، وأنهم يجب أن يفتحوا أعينهم على حقيقة ما يجري. ولكنهم (أي الأمريكان) يرفضون مناقشة أسباب تمسك اليهود بفلسطين، وعدم استعدادهم للمساومة على القدس. فمبدأ المصالح ينطبق على الجميع، لكن منطق المبادئ هو من حق إسرائيل فقط.
يحاول الأمريكان ألَّا يفكِّروا بأنه لا يوجد فلسطيني لديه ذرة كرامة وشرف وانتماء، يمكن أن يوقّع على هذه الصفقة. هم يفترضون أنهم سيجدون "بطلاً" فلسطينياً سيخرج للتوقيع على الصفقة، ويُلزم الشعب الفلسطيني وقواه السياسية المختلفة بالرضوخ للأمر الواقع. وبالطبع هم مستاؤون جداً من موقف الرئيس الفلسطيني الرافض للصفقة جملة وتفصيلاً، بل إن موقف السلطة يُسبِّب لهم مشكلةً وعقبةً كبيرتين في دفع الصفة إلى الأمام؛ ولذا يلجأون إلى معاقبة السلطة، ومن المتوقع تصاعُد هذه العقوبات، في ظل رفضها للصفقة جُملة وتفصيلاً. وفي الوقت نفسه، تُدرك الإدارة الأمريكية بالتأكيد رفضَ حماس وفصائل المقاومة للصفقة أيضاً، ولذلك يلوِّحون بإجراءات عقابية لكلِّ من يرفضها أو يعطِّل تنفيذَها.
إذن، ما الذي سيحدث؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.