كُفَّ عن تسفيه تاريخنا.. في الردِّ على عصيدة التنوير

عربي بوست
تم النشر: 2019/05/23 الساعة 12:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/05/23 الساعة 12:28 بتوقيت غرينتش
المُفكر المغربي أحمد عصيد

شاهدت كغيري من المتابعين حلقات التنوير للأستاذ القدير أحمد عصيد، المنظّر للعلمانية بالمغرب، الذي برع في وضع الإصبع على الجرح وتشخيص مكمن الداء، لكنه ما زال قاصراً عن وصف الدواء، كما أن التهجم على النظم القائمة والمعتقدات والأنماط الاجتماعية السائدة وتناولها بالنقد والتحليل لا يعد مشروعاً في حد ذاته، وإن كان مرحلياً لا بد منه.

يعيب عصيد على المسلمين التفاتهم إلى الماضي والعيش على ذكرياته والتماس الحل لمشاكلهم بالرجوع إليه، ويعتبر أن هذا من بين أسباب انحطاطهم وتأخرهم عن الأمم، بينما يُلخص حله السحري ووصفته لدخول العصر في العلمانية وحقوق الإنسان، ولا يدري أن حلّه أيضاً ينهل من الماضي القريب، وبالضبط من عصر الأنوار، ولا أدل على ذلك من عنوان الحلقات والمفردات والشعارات.

وهنا أود الإشارة إلى أنه إذا كان المسلمون يلتفتون إلى ماضيهم بدافع الفخر، فهوأيضاً يلتفت إلى ماضي الغير، لكن بدافع الدهشة والانبهار، على الأقل فالمسلمون معجبون بماضيهم ونتاج حضارتهم البائدة، بينما هومفتون بماضي الغير ونتاجه الحضاري، ولا يفتأ يردد محفوظات الغرب، ويتغنى بموشحاتهم، التي حفظها عن ظهر قلب، ويتفاخر بنظرياتهم كأنه هومن وضع أسسها، دون أن يفهم روحها وجوهرها، فكان بذلك كالصلعاء التي تتباهى بشعر جارتها الطويل.

 صحيح أن السيد عصيد يتمتع بقدرة هائلة على التحليل مكَّنته من استيعاب البنى الفكرية والاجتماعية لدول شمال إفريقيا والشرق الأوسط، ويمتلك آليات التفكيك ووسائل الإدراك التي خوَّلت له الوقوف على أوجه التناقض بين العقائد والممارسات داخل هذه المجتمعات، لكنه درس هذه المشاكل انطلاقاً من النسق الفكري العلماني، ليعود فيقترح العلمانية كحلٍّ، واضعاً بذلك العربة أمام الحصان! بمعنى آخر، فإن عصيد لم يقُم بدراسة مشاكل هذه المجتمعات، وبعدها توصل إلى نمودج العلمانية كحل، بل فعل العكس، فوقع بذلك وكغيره من المثقفين ذوي النزعات التغريبية في المحظور، حيث فتحوا أعينهم ليجدوا حضارة في أوج ازدهارها، فانكبّوا على دراسة نظمها، بعدها عادوا ليحللوا مشاكلنا على ضوء هذه النظم، متناسين أنهم يظلون سجناء نظريات الغير، وأن هذه الأنساق الفكرية التي درسوها تفرض عليهم الحيز الذي يمكن لهم أن يفكروا داخله، فلا يظهر لهم أي حل خارجها.

نعترف بكل وضوح بنجاح النموذج العلماني والدولة الحديثة والنظم الديمقراطية وحقوق الإنسان في بلدان الغرب، ولكن يجب علينا أن نعي الحقيقة التالية: أن أسباب النجاح لا تكمن في النموذج في ذاته، بقدر ما تكمن في روح العصر ودينامية المجتمع الذي كان يرزخ تحت نير الاستبداد السياسي والاقتتال الديني، فتولّدت بذلك تحت الحاجة الملحة نزعات الخلق والإبداع، وابتكار النظم وتطوير النظريات والنماذج وتوظيفها في صياغة تعاقدات أفضت إلى التعايش السلمي، ووقف حرب الكل ضدَّ الكل، فازدهر تبعاً لذلك الإنتاج العلمي والتكنولوجي، مؤذِناً بثورة صناعية فتحت شهية هذه البلدان نحوالتوسع والهيمنة وبسط النفوذ، منتقلة بذلك إلى مستويات عليا من القوة والتقدم والرفاهية.

 ربما يعي الأستاذ عصيد جيداً أنه لا يمكن اقتطاع جزء من حضارة الغير، ومحاولة استنباته داخل بيئة مغايرة؛ لأن هذا الإجراء محكوم عليه بالفشل، كما يأتي في غالب الأحيان بنتائج عكسية، وكما قال المؤرخ الشهير أرلوند توينبي في كتابه العالم والغرب: "إن كل حضارة مثل كل طريقة حياة، هي كل لا يتجزأ، أقسامها متداخلة بعضها ببعض، إن أي عنصر حضاري منعزل يمكنه أن يصبح فتاكاً عندما يكون منفصلاً عن النظام الذي كان جزءاً منه، خاصة إذا ترك المجال أمامه حراً في وسط جديد، أما في إطاره الأصلح فإن هذا العنصر الحضاري لا يستطيع أن يُحدث أضراراً؛ لأنه يكون جزءاً من كل".

لا يجب على السيد عصيد أن يُزايد على المسلمين بكفاياته التحليلية، ودراساته المعمقة، وثقافته الواسعة، كما أن شطحاته الفكرية لا تنطلي إلا على الأُميين ومحدودي الفكر، ممن يعجزون عن فهم مزاج الحضارات وقانون نشأتها وتشكل فسيفسائها.

 وقد ذهب الأستاذ المحترم إلى أبعد من ذلك، عندما نزع طابع الحضارة عن تاريخ الإسلام، ولخَّصه في مجرد مدٍّ عسكري وحركة إمبريالية تمدَّدت بالسيف وانتشرت بالإرهاب، فكان برنامجه بذلك حلقات تزوير أقرب منه للتنوير. ومن هذه المنطلقات نقول للأستاذ كُفَّ عن تسفيه تاريخنا وأمجادنا، وضرب مكتسباتنا، فنقدُك أقرب للهدم منه إلى البناء، وإن كنت تدّعي العقلانية وكانت لك غيرة على شعوب المنطقة كما تقول، فعليك بانتهاج حوار يخلو من الغرور والاستعلاء، مع الفئة النيرة من العلماء، ونهج إصلاحي يرمي إلى تطهير المنظومة الدينية من الخرافات التي أُلحقت بها، وتأويل النصوص تأويلاً يتناسب مع متطبات العصر، ويشيع قيم الحرية والسلم والتعايش، وتقبل الاختلاف والتسامح والإخاء، وصياغة خطاب ديني يحضّ على النهوض ومواجهة الفساد والاستبداد، والسعي للانعتاق والتحرر من ربقة التبعية، والخروج من تحت عباءة الغير.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
سعد الخناتي
أستاذ مغربي
سعد الخناتي من المغرب، أعمل أستاذاً، وأسعي من خلال التدوين إلى دعم مشروع نهضة العالم العربي ببعض الأفكار التي أتمنى أن تكون مجددة، وبناءة، وإيجابية
تحميل المزيد