رمضان بالمصري.. مُكلف مادياً مفقر روحياً والكثير من المسلسلات السخيفة

عربي بوست
تم النشر: 2019/05/22 الساعة 14:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/05/22 الساعة 14:02 بتوقيت غرينتش

       "عُلم ويُنفذ".. إنه رمضان بالنكهة المصرية المريرة، في زمن "إعلام المصريين"، حيث الاحتكارات الكبرى للإنتاج والصناعة والعرض معاً، وكأن عقارب الساعة تدور للوراء، في عودة صارخة لزمن تمثيلية "الساعة 8" مساءً.

فجأة انقلب المشهد بين ليلة وضحاها، فمنذ عام واحد فقط كان موسم رمضان يضمّ أكثر من 30 مسلسلاً متنوع الجهات إنتاجياً وفنياً، في إطار تنافسي، ويتمثل الربح الضخم لشركات الإنتاج وقنوات العرض من الإعلانات التلفزيونية، وكانت الأزمات تتمثل في ضعف التسويق أو رداءة السيناريوهات، لكن الجديد هذا العام أن رمضان 2019 هو موسم "تامر مرسي" بامتياز.

 يذكر أن شركة "إعلام المصريين" التي يرأس مجلس إدارتها تامر مرسي، والتي استحوذت عليها "إيجل كابيتال للاستثمارات المالية" تمتلك عدة مؤسسات إعلامية، من ضمنها قنوات "أون"، وجريدة "اليوم السابع"، و"صوت الأمة"، وتلفزيون "الحياة"، وموقع "دوت مصر"، وشركة "سينجري" للإنتاج الفني، وأسهم شبكة "سي بي سي"، فضلاً عن الشراكة مع "دي إم سي".. يا لطيف يا رب.

"البقرة المقدسة".. ربنا يرحم أيامها

في الماضي القريب كانت الإعلانات تهيمن على صناعة الدراما المصرية وتتحكم بمجرياتها، ونذكر في ذلك الصدد تصدّي الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة لهذا الانفلات الإعلاني، وكان يصفها بـ "البقرة المقدسة" التي يعبدها الجميع، وهدَّد بأنه لن يعرض مسلسلاته على الشاشة، وقال ساخراً "دي إعلانات متعاصة دراما"، إلا أنه قبل رحيله استسلم مثل غيره لطوفان الإعلانات.

هكذا كان حال الصناعة في الماضي، لكن الآن مع موسم "إعلام المصريين"، الذي يتعهد برقابة أوسع، وسيناريوهات معلبة، وتوجيهات سيادية، وتشابه مضمون المسلسلات، مثلما رأينا في الموسم الرمضاني الماضي 2018، الذي سيطر عليه رجل الشرطة والجيش من باشوات مصر، يزداد الأمر تعقيداً، مما يشكل تهديداً للصناعة الدرامية المصرية، التي تنحسر في عددها وجودتها مقارنة بنظيرتها الخليجية واللبنانية والتركية.

الأمر الذي دفع المخرجة كاملة أبو ذكري للخروج في منشور تحذر من مخاطر توقف الإنتاج الدرامي تماماً، وقطع أرزاق لأكثر من 2 مليون عامل ينتظر رمضان من عام للآخر، وعلى غرارها خرجت الممثلة غادة عبدالرازق في منشور حول تلقّيها تهديدات بمنعها من العمل بأوامر من جهات سيادية، قبل أن تحذفه سريعاً.

ويشهد سباق عام 2019 غياب عدد من النجوم الذين شكَّلوا خلال السنوات الماضية واجهة لسباق مسلسلات رمضان، من أبرزهم عادل إمام، ويسرا، ويوسف الشريف، ويحيى الفخراني، ونيللي كريم.

يريدونها شاشة ناصعة البياض

اللفظ الخارج بـ14.6 ألف دولار.. وإمكانية سحب ترخيص الوسيلة الإعلامية.. ومع ذلك ينفون المساس بحرية التعبير!

لم يكن الفن والسينما ومجالات الإبداع بمنأى عن مقص الرقيب الباطش، حيث يطل القمع بوجهه القبيح ليغلق أي متنفس للمجتمع، وهكذا خرج إلينا المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام معلناً محاذير ومعايير أخلاقية "رادعة"، ألزم بها كافة وسائل الإعلام وشركات الإنتاج، وحذَّر من مخالفة تلك المعايير في المسلسلات أو الإعلانات أو أي محتوى فني، خصوصاً في شهر رمضان.

وكان "الأعلى للإعلام" حدَّد غرامةً قيمتها 250 ألف جنيه (14.6 ألف دولار) على كل لفظ أو مشهد يتنافى مع المعايير المحددة من قبل المجلس، بالإضافة إلى حذف المشهد بالكامل، وتغلظ  العقوبة المقرر فرضها على القنوات التي تبث مضموناً مخالفاً، ما بين جزاء مالي، إلى منع بث المادة الإعلامية، وفي حالة عدم الاستجابة لمعايير المجلس الأعلى للإعلام وتنفيذ الملاحظات والغرامات سيتم سحب ترخيص الوسيلة الإعلامية.

يريد المجلس شاشةً معقمة خالية من الجرائم والتعاطي والانحراف، حيث يسبق الشارع بكثير الجرائم والانحرافات التي نشاهد شذرات منها على الشاشة، ويتحوَّل العمل الفني مدرسة أخلاقية وتربوية للمُشاهد، تملي عليه ما يقوله ويفعله، وليست مساحة للخيال والانطلاق والإبداع، بينما هم يريدونها دراما ناصعة البياض.

ولقد اتَّجهت أنظار المشاهدين المصريين والعرب إلى شاشات الإعلام الحر، مثل قناة الشرق ومكملين والوطن؛ نظراً لصدق المواد المبثوثة، ومنها المسلسل الناقد لأوضاعنا "نقرة ودحديرة" للفنان الكوميدي محمد شومان، ويعرض في هذا العام باسم "مش نقرة ودحديرة"، وهو يوضح انحدار أوضاعنا في عام 2050 بطريقة كوميدية ساخرة، ويشاركه الفنان هشام عبدالله مع عدد من الموهوبين.

تأميم الاعتكاف

حتى الاعتكاف أُمم! فلقد اشترطت وزارة الأوقاف المصرية أن يتم الاعتكاف في مسجد جامع، وليس بالزوايا والمساجد تحت العمارات والمصليات، وأغلب مساجد مصر هي الأنواع الثلاثة الأخيرة، وخاصة في القرى والأحياء الشعبية، واشترطت الأوقاف أيضاً أن يكون المعتكف من أبناء المنطقة السكنية المحيطة بمسجد الاعتكاف، وأن يتم الاعتكاف تحت إشراف أحد أئمة الأوقاف أو أحد وعاظ الأزهر، أو خطيب مصرَّح له من الأوقاف تصريحاً جديداً أو لم يسبق إلغاؤه، واشترطت الأوقاف أيضاً أن يُقدم المعتكِف بطاقته الشخصية لمشرف الاعتكاف قبل الاعتكاف بأسبوع؛ حتى يتسنى إرسال هذه الأسماء إلى الأمن الوطني للموافقة على الاعتكاف أو اعتقال المطلوبين أمنياً وهم كُثر!

وحتى الميكروفونات ممنوع استخدامها في صلاة التراويح، إنما للأذان وخطبة الجمعة فقط، وعلى قدر الحاجة!

وفي شمال سيناء ممنوع التجوال الليلي، مع تمديد حالة الطوارئ؛ فأنَّى للمصلي أن يذهب لصلاة التراويح، وإذا اعتكف فكيف يخرج من المسجد لحاجة ضرورية؟!

وأي انتعاشة متوقعة في الناحية الروحية مع التربص الأمني وقانون الطوارئ والفقر صاحب الناب الأزرق الذي ينهش أغلب المصريين؟!   

إن حسابات المصريين تزداد تعقّداً مع مجيء شهر رمضان؛ بالنظر إلى الارتفاع الكبير في الأسعار وثبات الأجور، والتداخل بين الالتزامات المتعدّدة. ومع ذلك فإنهم يسعون للاحتفاظ ولو بجزء بسيط من روح الشهر، هو مجرد ثلاثين يوماً، لكنه مكلف مادياً، مفقر روحياً، مع الكثير والكثير من التمثيل.

[1] http://ar.awkafonline.com/?p=41871

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمود خليفة
كاتب وطبيب بشري
محمود خليفة، طبيب بشري أخصائي جلدية، من مواليد 1963. كاتب وأديب وله رواية "أرض الجمل" مطبوعة. وله عدة قصص قصيرة منشورة في مجلة "أنهار" الأدبية وموقع "قاب قوسين" وغيرهما. وله مقالات سياسية منشورة في موقع "عربي بوست" و"ساسة بوست" وغيرهما.
تحميل المزيد