رحلتي إلى مكة.. ارتديتُ أكفان الموتى وبكيتُ أمام «الكعبة»

عربي بوست
تم النشر: 2019/05/21 الساعة 12:26 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/05/28 الساعة 14:36 بتوقيت غرينتش
صورة للكعبة الشريفة عام 2010

منذ عام مضى وأنا أُمني النفس بزيارة إلى بيت الله الحرام، دعوت الله كثيراً أن يرزقني هذه الزيارة المباركة، وها هو وعد الله قد تحقق، وقد يسر الله، وسافرت أنا وزوجتي إلى هذه البقعة المباركة، أحب بلاد الله إليه، يوم 12 مايو/أيار 2019، اللهم إنا نعوذ بك من كآبة المنظر، وسوء المنقلب.. كنا مُحرِمين في الطائرة، نهتف بالقلب قبل اللسان: "لبيك اللهم عمرة لا رياء فيها ولا سمعة".. ويزداد التعجب والدهشة كلما اقتربنا أكثر إلى بلاد الحرمين، فلم أكن أتصور أن تسير الأمور بهذه السهولة، وكما قال أحد مَن ودعتهم: "مَن طُلب لبَّى".

ونحن على متن الطائرة، كنت أتأمل حالنا ونحن بين السماء والأرض، فوق السحاب حقيقة، نشق الفضاء.. ما هذه المعجزة؟! وكأن الزمان قد توقف، لا أدري ساعتها ما أقول غير "يا رب استرها".

هل سنهبط بسلام.. هل.. هل؟ وفجأة أتت صورة أولادي ومواقفهم وكلماتهم، ودموع ابني البكر عبدالله مودعاً على أعتاب مطار القاهرة، وإذا بدموعي تسيل على خدي، سائلاً الله السلامة والنجاة، والوصول إلى مرادي وغايتي.

وبينما أنا على هذه الحالة، إذا بصوت قائد الطائرة يطلب منا أن نحرم فقد أصبحنا في الميقات، قلت أنا وزوجتي: "لبيك اللهم عمرة عن نفسي لا رياء فيها ولا سمعة"، ودعونا الله ورجونا القبول والفلاح، ثم تحرك الوقت سريعاً، وإذا بقائد الطائرة يطلب منا أن نربط الأحزمة استعداداً للهبوط.. ها قد وصلنا بسلام إلى مطار جدة.. تقدمنا لإنهاء الإجراءات.. تأملت موظفة الجوازات أوراقي، ثم سألتني هل أنت صحفي؟ أجبتها بإيماءة أن نعم.. أخذت تسترسل في الحديث؛ أين تعمل.. وكيف حصلت على التأشيرة؟ وأنها كانت تعمل صحفية أيضاً، وهكذا، وربما كان هذا سبباً أيضاً في تيسير الإجراءات علينا، بحكم أنها زميلة!

غادرنا مطار جدة، كان شقيق زوجتي منتظراً بسيارته، تصافحنا وتعانقنا، ثم توجهنا إلى مكة، وأنا بملابس الإحرام أخذتُ أتأمل هذه الثياب، التي هي في الحقيقة رمز للتجرد من الدنيا وما فيها، وبمشاعر السعادة التي غمرتني بمجرد أن لبستها.. إنها أشبه بأكفان الموتى، ليس لها أي جيوب، بل هي قطعتان؛ واحدة لستر العورة، والأخرى توضع على الكتفين.. دون خياطة، يبدو أن النفس كانت تبكي على الدنيا.. والسعادة فيها تركُ ما فيها.

أخذت السيارة تسير في طريقها، وأنا أتأمل الجبال التي تحاوطنا، والشمس التي ترسل أشعتها ملهبة الصخور، وكأنها توقظها من سباتها؛ لتستقبل زوار بيت الله الحرام.. أخذ شقيق زوجتي يحدثنا مرحّباً بنا ومهنئاً على سلامة الوصول، وبأن كتب الله لنا هذه الزيارة.. ثم وصلنا إلى مسكنه.. وضعنا الحقائب، وكان أذان المغرب قد رُفع "الله أكبر الله أكبر".. لنفطر ونتجهز للزيارة الموعودة.. صلينا ما فاتنا من فرائض.. ثم تجهزنا، وانطلقنا إلى بيت الله الحرام.

وكلما اقتربنا كان القلب يزداد اضطراباً، لا أدري هل هو الخوف من اللقاء أم الدهشة أم الشوق الذي كثيراً ما دفعني لهذه الزيارة؟!

صعدنا الدرج، واقتربنا من باب الملك عبدالعزيز، ها هي الكعبة تلوح من بعيد.. نقترب أكثر.. آه يا كعبة الخليل.. أنا الآن مقابل لكِ.. وفي القلب رهبة وخوف ورجاء، مشاعر لا توصف.. خليط من المشاعر.. وانفكت عقدة اللسان، وإذا بالدموع تنهمر بغزارة وكأنها سيل يجتاح النفس فلا يتوقف.. هاتفاً من أعماق القلب: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، ثم أخذت أدعو بما تيسر على لساني، دون تكلف، فليس هذا مقام التكلف.. بل هي النفس تخاطب خالقها، معلنة الخضوع والتسليم بحب، بل بمتعة، لأول مرة أشعر بسعادة أن أكون عبداً لله، الخالق، الواحد الأحد، القوي المهيمن، كم هو إحساس رائع أن يحب العبد سيده، وأن يجد متعته في طاعته وخضوعه له، ليس مجبراً، بل بكامل إرادته واختياره، فاللهم لا تحرمني من عبوديتك سيدي وخالقي ورجائي.. ما زلت مشدوهاً من جلال الموقف، ولساني يلهج بالدعاء.. وزوجتي تكاد تطير من فوق سيل البشر الجارف الذي لا يتوقف هاتفة: لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله.. مشهد مهيب حقاً.

أخذنا نلتحم بالصفوف؛ لنبدأ الطواف حول هذا البناء العظيم.. أجناس شتى، ولغات كثيرة، وألوان عديدة، من كل حدب وصوب، جاؤوا لكل منهم حاجة وغاية لدى سيده يريد قضاءها، وبداخل كل منهم سر لا يريد أن يُطلع أحداً عليه سوى خالقه.. كل منا مشغول بحاله، خليط من الرجال والنساء، وأصوات مختلطة، فرادى وجماعات، شيوخ وعجائز وشباب وأطفال.. كل في فلك يسبحون.. والكعبة مركز الكل يدور حولها.. جمع لا ينفض؛ كلما أنهت مجموعة أشواطها دخلت أخرى في أثناء ذلك، لا ينقص ذلك من المشهد، بل يزيده بهاء وجلالاً.

وفعلاً في القلب حاجات سألت الله أن يقضيها، وبينما أطوف أنا وزوجتي؛ إذ بنا نقترب من هذا البناء الشريف، إنها الكعبة! ونتعلق بأستارها، وإذا بالدموع تنهمر، والقلب يخفق، لا أصدق أنني ألمس الكعبة بيدي، وأناجي خالقي، ولا أسمع أصوات من حولي ولا زحامهم، انصرفت نفسي عن كل شيء، إلا غاية واحدة؛ أسأل ربي أن يحفظ عيني من الخيانة، ولساني من الكذب، وقلبي من النفاق، والمغفرة في الآخرة، والعافية في الدنيا، ثم دعوت لأمي وأبي اللذين هما سبب وجودي، ثم لأولادي بالاسم وإجمالاً، وكل من سألني دعوة في هذا المقام الطاهر أن يقبلها الله له ويحقق غاياته.

تدافعت الجموع، أصبحت أمام الحجر الأسود، الكل يتسابق عليه؛ ليظفر بتقبيله، اكتفيت بالإشارة إليه من بعيد، تنفيذاً لسنة الحبيب في النهي عن التدافع عليه،  ثم وجدتني أمام قدم إبراهيم الخليل، ما أعظم هذا الأثر الذي يجسد عناء خليل الرحمن، عليه السلام، في تشييد بيت الله الحرام، صليت وسلمت عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ثم أكملنا الأشواط، تارة نبتعد عن الكعبة، وأخرى نقترب، والقلب يفرح بالقرب، وفي البعد، تتعلق العين بها، لا يدرك ما أعني إلا من عاش هذه الأوقات واستشعر حلاوتها في بيت الله الحرام.

أكملنا سبعة أشواط، واقتربنا من حِجر إسماعيل، عليه السلام، وهو مثلث موازٍ لناحية الكعبة، تحت الميزاب، صلينا ركعتين، ودعونا الله أن يتقبل عمرتنا، وأن يمنّ علينا بالمعافاة.. والستر في الدنيا والآخرة، وأن يجمعنا في مستقر رحمته.

انطلقنا سريعاً، تدفعنا أمواج البشر إلى ماء زمزم.. آه يا ماء زمزم، كنتَ نجاة لإسماعيل عليه السلام، بعدما انقطع الأمل بهاجر، التي كانت تبحث عن الماء في أرض قاحلة، لا زرع فيها ولا حياة، اللهم اجعله شفاء لأسقامنا وأوجاعنا، وطيب به أجسادنا، وزكّ به أنفسنا، فهو لما شُرب له، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو طعام طعم وشفاء سقم، أخذنا نشرب حتى امتلأت المعدة والضلوع، وتغلغل الماء في أجسادنا، حتى إننا كنا نشك في أننا لن نقوى على الحركة بعدها، لكن كان الأمر عكس ما ظننا، قمت أنا وزوجتي التي دبّ فيها النشاط بشكل عجيب، كنت أظن أنها لن تقوى على فعل شيء بعد الطواف، لكنها أخلفت ظني، صلينا ركعتين لله تعالى، ثم انطلقنا إلى المسعى، ما بين جبلي الصفا والمروة، وصلنا إلى الصفا، رددنا في نفس واحد: "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم"، نبدأ ما بدأ الله، متجهين من الصفا إلى المروة، ما أبهى المسير! الكل يذكر الله.. على الأقدام، على الكراسي المتحركة، بل زحفاً بلا أقدام، عافانا الله وإياكم، الكل يتسابق إلى الخيرات، وفي لحظة.. الرجال يجرون مسرعين، عليّ أن أجرى أيضاً، إنه الرمَل، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي هنا ويسرع، ربما كانت هاجر، زوجة سيدنا إبراهيم تجري هنا أيضاً باحثة عن الماء بين الصفا والمروة، يا لروعة هذه السيدة العظيمة، التي تفجر الماء من تحت أقدام صغيرها؛ ليكون معجزة خالدة إلى يوم الدين، فأحيا الله هذه الأرض القاحلة بعد موتها، ونشر العمران في هذا المكان، الذي أصبح قِبلة للعالمين.. لم أغفل لحظة عن تأمل جنبات المكان والناس من حولي، وألسنتهم التي لا تكف عن الذكر والدعاء.. هنا فعلاً لا مكان للدنيا بماديتها وأحقادها وأطماعها، الكل له هدف، هو المغفرة من الله، والتحلل من المظالم، والرجوع إلى جناب رب رحيم يفرح بتوبة عبده.

أثناء السعي تقابلك الكعبة، وكأنها شاهدة عليك لا تفارقك، تطلب منك إتمام العمل، والتقرب إلى الخالق، والأعحب أنك لا تستطيع أن ترفع بصرك عنها.. بل هي التي تنصرف عنك بأمواج الجموع أو بابتعادك في المسير.. انتهت أشواطنا السبعة.. جلسنا في حالة من الهدوء والسكينة لم نعِشها من قبل، راحة ما بعدها راحة، وكأن جبالاً كانت على الأكتاف قد أُزيلت، القلوب قد صفت، والنفوس سعيدة، والأمل في موعود الله لا ينقطع.. والبشرى من الله قد أقبلت.. فاللهم عودة ثم عودة… وتقبل عمرتنا دون رياء أو سمعة أو تفاخر، ولا تحرمنا يا رب من القرب منك، وحج بيتك، وزيارته، والتودد إليك في أحب بلاد الله إليك، واكتبها يا رب لك مشتاق يريدها بصدق.. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
رزق عبدالمنعم
كاتب صحفي ومدقق لغوي
تحميل المزيد