تواطؤ الجيوش في دول العالم الثالث مع الأنظمة ضد شعوبها حاضر وبقوة، وشكلٌ من أشكال القوى الجاثمة على صدور الشعوب حتى بعد تحرُّر أوطانها من بطش المستعمر. الدوائر الإعلامية الداخلية والخارجية على اختلاف توجهاتها لم تُخفِ ذهولها حيال تحيُّز الجيش إلى صف المطالب الشعبية.
المفارقة في نماذج الانتقال الديمقراطي التي حدثت في دول العالم الثالث، أنه لم يحصل وإن وقفت مؤسسة جيش برمتها في صف حراك شعبي يسعى إلى إسقاط سلطة قائمة ساندها يوماً ما وعبَّد لها الطريق نحو الحُكم، عدا تلك التي حصلت في جمهوريات الاتحاد السوفييتي سابقاً والتي قادها ثلة من الضباط المنشقين عن الأنظمة الاستبدادية.
ورغم المخاوف والتوجس الذي لم يُخفِه كثير من المتتبِّعين لمسار الحراك الجزائري، من هندسة الجيش لخارطة ما بعد نظام بوتفليقة، بناء على التجارب الحاصلة في دول الربيع العربي بمصر واليمن وسوريا، واستماتة الجيش في الدفاع عن النظام القائم، إلى هنا يبدو التخمين منطقياً، فإن المقاربة الفعلية للحالات السابقة والحالة الجزائرية تدحض الإسقاط كما هو، لأن منطلقات الطرح الذي جاءت به قيادة الجيش في الجزائر بتفعيل المادة 102 من الدستور وتفعيل مبدأ شغور منصب رئيس الجمهورية، واستدراكها فيما بعد بتفعيل المادتين 7 و8 من الدستور واللتين تنصان في مضمونهما على أن "الشعب هو مصدر كل سُلطة"، قرار يفسره البعض على أنه عودة الجيش الى مساره الحقيقي بعد أن تمت مصادرة صلاحياته التامة بعد العهدة الرابعة لبوتفليقة، عندما أحكم قبضته على المؤسسة وفكك جهاز الـ "دي آر إس" وإحالة مديره "الجنرال توفيق" إلى التقاعد، ليلحق تسييره برئاسة الجمهورية تحت اسم "دائرة المصالح الأمنية" برئاسة الجنرال بشير طرطاق.
تفكيك الأحجية العسكرية التي هيمنت عليها مؤسسة الرئاسة في أعقاب الولاية الرابعة لبوتفليقة، لم يكن بالأمر الهين، فبعد فصل القيادة العسكرية في تخندُقها بصف الحراك الشعبي، بدأت بوادر التحرر من قبضة المؤسسة الرئاسية التي هيمنت على المشاهد السياسية في البلاد، وألقت سيطرتها على المؤسسة الصانعة للرؤساء بالجزائر، ليعلنها قائد الأركان صراحة ويدفع الرئيس الى التنحي والعدول عن الترشح للولاية الخامسة، التي أصبح رفضها الشعبي المطلب الرئيس في شعارات الحراك الشعبي منذ انطلاقه في 22 فبراير/شباط 2019.
حصانة الحراك الشعبي في الجزائري من الاختراق الخارجي
الحصانة الداخلية ضد التدخل الأجنبي بلورتها عقيدة مجتمعية للفرد الجزائري الذي يؤمن إيماناً راسخاً بمداواة جراحه وحده ليكون طبيب نفسه، فرغم المحاولات الخارجية بالتدخل في الشأن الداخلي للجزائر بكل مناسبة، فإن المناعة حيال ذلك تجهض كل التحركات المشبوهة، هذا ما حصَّن الحراك الشعبي الذي انطلق في 22 فبراير/شباط، من أي اختراق وأعطى درساً حضارياً للشعوب المناضلة، ودحض كل المشككين في سلمية الحراك ممن رفعوا فزاعة الأزمات الأمنية التي ضربت دول الربيع العربي، ونقصد هنا خطاب الوزير الأول السابق أحمد أويحيى، الذي برر الصمت الرسمي، في البرلمان الجزائري، حيال الحراك الشعبي السلمي بأن الثورة السورية بدأت بالورود وانتهت بالمآسي، وهي شكوك ردَّ عليها المتظاهرون بقوة السلمية وقمَّة الوعي، ففي كل جمعة لم تغِب صور الشباب وهم يقدمون الورود لرجال الأمن ويوشِّحونهم بالأعلام الوطنية، لتنتهي في المساء بتنظيف الشوارع والساحات العامة.
على الرغم من حدَّة الأزمة الأمنية التي عاشتها في أثناء العشرية الحمراء، وتأجُّج حدة العنف، لم تتغير عقيدة الجزائر في شقها الخارجي، هذا ما نأى بها عن التدخل الأجنبي بشأنها الداخلي، بل زاد الإصرار على عدم فتح المجال للتدخل الأجنبي وتدويل ملف العشرية، رغم أن من المحللين من يوعز ذلك إلى مخافة بعض المسؤولين بالنظام من المتورطين في تلك الأحداث من جهة وسعي فاعلين سياسيين من أحزاب وجمعيات سياسية إلى عقد ندوة سانت إيجيديو من جهة أخرى، والتي اعتُبرت محاولة لتدويل المأساة الجزائرية، ليتم وأد المبادرة تحت طائلة محاولة تدويل الملف الأمني الجزائري، حتى حطت الأزمة أوزارها بمساعٍ داخلية جمعت الأطراف المتصارعة، تحت قيادة الجيش في نهاية التسعينيات، ليتم تبنِّي المبادرة سياسياً، وهي الأزمة التي اعتبرها كثيرون ممن اهتموا بالشأن الجزائري ربيعاً استباقياً عاشته الجزائر، عزز من المناعة حيال الانزلاقات الأمنية لاحقاً، ودرساً استوعبه الجزائريون بعد معايشة العشرية الحمراء وما خلفته من مآسٍ.
أحداث الربيع العربي بعد 2011 والاضطرابات الأمنية التي عاشتها دول الربيع، الجزائر وبالنظر إلى حالة الاستقرار الأمني كانت من الدول التي استقطبت اللاجئين السوريين الفارِّين من الحرب والصراعات الدائرة هناك، فضلاً عن موجة النازحين من التوترات الأمنية في شمال مالي من اللاجئين إلى الجزائر، بالنظر إلى التضامن الشعبي الذي فاق التعامل الرسمي معهم، رغم بعض التجاوزات والاعتداءات التي تورط فيها المهاجرون في مناطق إقامتهم والتي ألقت بظلالها على الأمن المجتمعي، وانتشار ظاهرة التسول بالأماكن العامة وعلى أبواب المساجد والأسواق الشعبية، ليتم تجاوز الظواهر سالفة الذكر، من خلال إجراءات تعلقت بترحيل المهاجرين الأفارقة والسوريين بعد أن أصبحت الجزائر منطقة عبور إلى الضفة الأوروبية، عبر قوارب المهاجرين غير الشرعيين من السواحل الشرقية والغربية الجزائرية نحو جزيرة سردينيا الإيطالية والسواحل الإسبانية في الغرب.
تلك الدعائم التي لا غنى عنها شكَّلت المنعطف الحاسم في بلورة موجة الحراك الشعبي، وأدت الدور في المحافظة على نسق الحراك، وعدم تأثره لا بالعوامل الخارجية ولا الداخلية، فهْم النسق الحركي في النموذج الجزائري أصبح محل تحليل وتشريح سوسيولوجي، بغية وضعه في الإطار الأكاديمي لدى المهتمين بحقل العلوم الاجتماعية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.