كم نحب موتنا يا سادة!

عدد القراءات
1,914
عربي بوست
تم النشر: 2019/05/09 الساعة 15:03 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/05/09 الساعة 15:03 بتوقيت غرينتش
إن الحرب في غزة تَجِبّ ما قبلها يا سادة، لكن التهدئة لا تفعل ذلك

عمارة تهبط وراء الأخرى كأنها أحجار الدومينو… ترى أحبابك يغرقون في دمائهم في لحظات… الشارع الذي تعودت معالمه أصبح قفاراً.

لا يوجد رمضان جديد في غزة، بل كل رمضان ينسحب إلى تلك النسخة منه في حرب 2014؛ برائحة الرماد التي كانت قبل لحظات رائحة تحضير الطعام، والجثث الثقيلة المحاصرة تحت أرتال الدمار، منذ لحظات كانت أجساداً خفيفة، صائمة.

هذا الربيع أيضاً ينسحب ليشبه شتاءً آخر في حرب 2009، والبرد المختلط بالخوف، والليل الطويل المعتم، والجنازات السريعة التي يرتدي المعزون فيها قبعات صوفية.

أذكر جيداً حين انتهت حرب 2014 شعرتُ بالخديعة والغضب بعد أن اتفق قادة الأحزاب الفلسطينية في قطاع غزة على التهدئة، ووقف العدوان الإسرائيلي، نعم بالتأكيد فرحت بها وحتى إنني أخذت أهلل بالشارع حين أخرجت صديقتي الصحفية رأسها من السيارة، وقالت لي وأنا أقف على الرصيف "اتفقوا"، أخذت أصيح في الشارع "اتفقوا اتفقوا" فقد أردت أن يسمعني سكان المنطقة.. لكن سؤال كبير كان يتردد في رأسي "لماذا تهدئة، وقد صبرنا من أجل النصر؟".

لم يختلف شعوري بالغدر من القادة أيضاً بعد التهدئة في نهاية حرب 2009؛ كنا قد قطعنا شوطاً طويلاً من الصمود في كلا الحربين ومات كثيرون، لماذا نتفق إذن في كل مرة على بضعة أميال في البحر وميناء لا تحدث أبداً؟

ولم تكُفّ أسئلتي عن الاشتعال؛ إذا كانت هذه الاتفاقيات هي الهدف فهل كان من الممكن أن تتم قبل وقوع آلاف الضحايا؟! أما إذا لم تكن هي الهدف، فما هو؟ وفي أي حرب ستتحرر فلسطين؟ وإذا كان لا بد للحرب أن تنتهي، فلماذا لا يتم سؤال الضحايا عن رأيهم في بنود هذه التهدئة التي تتكرر خلال عقد من زمان دون أن يتغير شيء سوى شدة الحصار؟

الآن يعود العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة من جديد، وهو ليس مفاجئاً بل تتويج لجولات ردع موضعية استمرت طوال عام ونيف، لم تتردد خلالها المقاومة في الرد عليها بنفس المقدار من الجهد والسرعة، وقد نجحت أن تبقى على حافة فرض توازن القوى ولم تسقط في خطر تدمير القطاع من جديد في ظل جرائم حرب لا تتردد إسرائيل في تكرارها، وهكذا من الممكن أن نعتبر التفاوض تم في فوهة سلاح.

لكن هذه المقامرة من الصعب ثباتها… أو كما يقول نيتشه "فمن يحدق في الهاوية طويلاً فستحدق به هي الأخرى"، شنت إسرائيل مئات الغارات، قصفت الأبراج وقتلت العائلات كما عهدها، أسقطت البنايات، استهدفت البنية الاقتصادية والتحتية في أقل من يومين، لم تهتم بمسابقة الأغنية الأوروبية "اليوروفيجن" التي كان من المفترض أن تقام على مسارحها، بل على العكس حولت ما يحدث لصالحها واستغلت الوفود المتواجدة في سياحة أمنية بدل فنية.

أما نحن فقد عدنا لفقد الأحبة والأطفال؛ كأنهم كانوا ينتظرون دورهم، لذلك يجب أن نقولها هذه المرة؛ لا تراجع ولا استسلام، لا تهدئة ولا اتفاقات يقوم بها أصحاب الأيدي الناعمة على حساب رجال المقاومة الذين تيبَّست جلودهم من أجلنا، وفي كل مرة نردهم خائبين.

بالمناسبة هم أيضاً يكرهون الحرب ويحبون أن تنتهي، بل بعد أن تنتهي تبقى تزورهم في المنام لشهور طويلة مثلما قال لي أحد المقاومين في مقابلة صحفية في أكتوبر/تشرين الأول 2014، وكان يقاتل من أحد الخنادق الذي لا تزيد سعته عن 70 سنتيمتراً في الحرب التي وقعت صيف العام ذاته: "كل ليلة أرى نفسي في ذات الخندق، وقد فتحوه علينا الجنود وقتلونا".

جميعنا نكره الحرب نعم، لكن حين تبدأ ونفقد ما نفقده ونتحدى وننسى ما نفعله ببعضنا البعض وقت السلم، ونتجاسر على خوفنا، ويصبح صاروخ "طالع" شهقة أمل لرد فجور صاروخ "نازل"، ويمسي سر قوتنا أننا نعيش مع الموتى، عند ذلك الوقت ممنوع عليكم الاتفاق على تهدئة ركيكة، خَرِبة من أجل حقن الدماء، أو مجاملة للمصريين، إن الحقن كان أولى أن يحدث منذ البداية! لكن ما دام على إسرائيل أن تفهم المعنى العميق لتوازن الردع، وأن هناك 360 كيلومتراً مربعاً في العالم لا تستطيع أن تتحكم بها، فلتكن إذن الهاوية يا نيتشه!

 أعرف أنني خارج القطاع هذه المرة، ولا أحضر هذه الحرب أو أغطيها كما في الأعوام السابقة وأشعر بقلوبكم المقبوضة عن بعد، ولن أدعي أن قلبي مقبوضاً بذات الدرجة من الخوف والرعب فأطفالي ينامون بجانبي هنا، إلا أن هناك مَن يجب أن يوقن أن حياة الناس ليست بين يديه، كما لا يجب أن يبني مصالحه على اعتقاده أنه يمتلك الشعب.

لذلك أدعو المقاومة في غزة أن تكفَّ عن تبعيتها للساسة، ولتكن ولية أمر نفسها، وحين يصرح أحدهم "إننا نؤكد بأن رد المقاومة مرتبط بمستوى العدوان والاستهداف… وأن التباطؤ في تنفيذ التفاهمات ومحاولة كسب الوقت خلق حالة من الاحتقان في أوساط أهلنا في غزة"، نردّ عليه: كفّ يا سيدي عن التحكم بالمقاومة والتحدث باسمنا لضمان تفاهماتك.

إن من أدمن مكاتب السلطة لم يعد يعرف جمال الميدان، يعتاد على صور الجثث والموت، ربما يتأثر أو يبكي، لكنه لا يشم، لا يلمس، لا يذوق، لا يسمع، لا يرى كيف يزهر الموت من داخل قلوب الضحايا كأنه شجرة لوز ربيعية.

من على الأرض وحده يعرف الإجابة على سؤال: كيف يموت الناس في الحرب؟ وهم يحيون؛ في منزلهم وفي الشارع، وهم يمشون، أو يشربون القهوة، وربما يضحكون، لا توجد حالة محددة لشكل الموت في غزة أو الاستعداد له، فكل يوم هو احتمال مفتوح عليه، وإن ما بين الحرب والحرب هي حياة تنتظر أوان القطاف.

إن الحرب تَجِبّ ما قبلها يا سادة، لكن التهدئة لا تفعل ذلك، بل تعني اليأس المتراكم، والدمار المتراكم، بكاء على الشهداء، استرجاع الذكريات، المناشدات، شجار على المساعدات، انتظار التعويضات، الانقسام، لذلك لنتقن الحرب المستمرة إذا كانت الحياة في هذه المدينة خدعة كبيرة؛ إن من مآلات أقدارنا الساخرة أن جثمان الشاب الذي كان يسعى للهجرة محمد البحيصي وقد وجدوه على شواطئ تركيا، وصل غزة وسيتم تشييعه اليوم مع الشهداء.

لا تستغربوا بالتأكيد أكره الحرب وطرفَيها، لكني أكره أن يدير شؤون الموت أحد غيرنا، يجب أن ندير شؤون موتنا بأنفسنا، نمسك تلابيبها بأصابعنا، نتحكم بها.. شعباً ومقاومة، وليس قادة لديهم مصالح خارجية أو جهات أرادت أن تغسل وجهها بغزة كل عامين أو ثلاثة، فلتكن حربنا نحن، لندير شؤون موتنا نحن.

كم حرباً تلزمنا لنكتشف جمال أطفالنا! نحن نقدس جمالهم في الثلاجات فقط، نتغزل بالشباب النضر في سياراتهم المحروقة وعيونهم نصف المغلقة… كم نحب موتنا، إذن لنُدِره بأنفسنا… ولتكن المعادلة؛ موت أكثر تحرر أكبر، ويبقى القادة يديرون شؤون بقائهم أحياء وحدهم ويرفعون أيديهم عن جثثنا!

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أسماء الغول
كاتبة فلسطينية
تحميل المزيد