بالبحر تودعنا

عربي بوست
تم النشر: 2019/05/07 الساعة 13:34 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/05/07 الساعة 13:34 بتوقيت غرينتش
لا تزال صاحبتي في نظري أبهى درة كشف عنها بحرنا الأزرق

"هو كان قريب وجوَّه وأنا برَّه وبعيد، واقفة على الشط باقول بيغرق وقلبي مخلوع، وهو في البحر الغريق بيعوم"، بتلك السطور التي لا تبرح بالها بدأنا الحديث، اجتمعنا -أنا وهي- بعدما حال على فرقتنا حول على شط بحر مداه رحيب، وفوق الرمال المنسابة جلسنا حفاة، تاركين للشوارع ضجيجها، ولبني البشر لغطهم. كلما نظرت إليها، أدركت أن للسنين سحرها الخاص في نقش الحكايات على قسمات الوجه وتقاطيعه؛ فبعصاها ترقش المشاهد ما بين الجفون، وتغرز العواطف في ثنايا التنهيدات، وتسطر النهايات فوق الجباه. قد غيرتها الأيام كثيراً حتى كدت لا أعرفها؛ رأيت في فضاء عيونها وميض حزن يلوح ويختفي، ووجدت بها حزناً كحزن الكبار المجبورين -يوماً بعد يوم- على اجتراع الدمع عوضاً عن لفظه، ولمست بابتسامتها الوديعة كدراً لا يليق بمن مثلها.

التفتت إليَّ شيئاً فشيئاً، وعادت معي بالزمن إلى تلك الذكرى وما تحمله في صدرها من غصة، وقالت لي بصوتها الشجي: "ركب البحر وراح"، ومن ثم مالت إلى يمينها والتحفت بوشاحها الأزرق السماوي الوثير، وظلت أمامي معلقة؛ نصفها غارق في مياه البحر اللازوردية، والآخر موصول بغيوم السماء، متكئة نصف اتكاء، وكأنها تركن إلى منكب أحدهم كي تستريح شيئاً أو بعض شيء، لم تقل إنها منهكة، ولكن كل ما فيها قد قال؛ عيناها اللتان تعتليهما غيوم لم تكشف عن أمطارها بعد، ويداها المرتعشتان المائلتان إلى شيء من زرقة البرد وقسوته، وقدماها اللتان تستحوذ عليها الجروح إثر سيرها غير المنقطع وطريقها التي لا تهدأ.

ظلت منكمشة في تلك البقعة من الأرض، تحاول أن تداري ما في جوفها من بكاء منحبس، وبينما كنا غارقين في الصمت الذي أعقبه ما بنا من حسرة، انبعث صوت عود أصيل من مكان بالرغم من قربه لم نرَ صاحبه، وبعيد عدة دقات وثيقة على أوتاره، نثرت ذات الصوت الملائكي عبقها على شطنا العريض منشدة: "يا مسافرة في البحر جايي أودعك، حمل سلامي للهوا، وودي معك"، وفور ما انتبهت إلى الكلمات وألحانها، ارتاحت في جلستها قليلاً ودون أن تنظر لي أخبرتني أن بحارها قبل أن يرحل، أهداها شريطاً لا يحوي شيئاً سوى هذه الأغنية، وكان قد أوصاها أن تستمع إليها كلما غلب عليها الشوق، وأعيتها الاحتمالات، وما إن افتر ثغرها عن ابتسامة رضا حتى اضطربت مرة أخرى؛ فالألحان لا تكفي، والأحرف لم تعد تروي ظمأ صبِية تقضي أغلب ما لها من وقت على شط بحر مياهه تنضح ملحاً مراً لا تستسيغه الألسن.

نظرت لي بعيون قد انعكست على بريقها زرقة الأمواج وقالت: "لم يكن هناك مفر من أن يذهب؛ فهو بحار خلق للترحال، ومقدر له أن يبقى ما حيي على سفر، وإن غاب عن سفينته ليلة، سيأتي عليه الصباح دون شراع ولا إبحار؛ فالسفينة هي الأخرى مقدر لها الإقلاع، وقضيتنا هي أن متن السفينة لا يساع". صمتت مجدداً وتناولت من فوق الرمال قنديلاً ذا قواعد ذهبية وأشعلته، فانطلق من قلبه ضوء أحمر خالط أصيل النهار المرتحل، ودون أن تلتفت لي أكملت: "على الراحل أن يمضي في طريقة بعزم دون أن يلتفت لما تركه وراء ظهره؛ فالالتفات يورث التعثر، والمتعثر في دنيانا ما له من مرسى سلام، كما أن على أحدهم أن يُترك؛ على أحدهم أن يعلق ما بين أمل بعودة، وأمر واقع أقر -منذ زمن- كل ما يخالف العودة، وأنا لا أرجو شيئاً أكثر من ألا أُترك سدى". وقبل أن ننهمك -أنا وهي- في بكاء قد يطول، تدخل العواد وصاحبته بأحرفهم البراقة، وصبوها فوق رؤوسنا صباً كما الزنبقات البيضاء مرددين: "روحي بسلام يا حياتي بخاطرك وضلي اذكريني في غيابك وارجعي". أنصتت الصبية لما يقع على آذانها من كلمات تبدو وكأنها كُتبت خصيصاً لها، وإذا بها تسكب من مياه البحر بضع قطرات على وجهها كي تبرد من نار دموعها ولو دمعة، وبعد محاولاتها الكثيرة في الهروب من نظراتي، استسلمت في نهاية الأمر وتطلعت إلى في حنو وأردفت: "ربما لو كان الزمان غير الزمان، ولو كنا غير ما نحن عليه الآن، ما كان يخطر للبحر أن يقسم بيننا أبداً".

لم تخبرني أنها قد وعدته، ولكن كل ما فيها قال إنها وعدت بينها وبين حالها أن تنتظر؛ جلستها وانقباضها على نفسها يقران بأنها ستظل لسفينته فناراً حتى يستهدي بقلبها في طريق عودته لمستقره ومقامه، وقنديلها يشف عن نور روحها الذي سيبقى له وضاء ما دام كل منهما على العهد باقٍ، أطلت النظر إليها وودت إن أمكن لي أن أربت على كتفيها، ولكن صاحبتي -مثلما كانت دوماً- لا تقبل بأن يشفق عليها أحد، فاكتفيت بأن أدعو الله سراً أن يكون بها حليماً وبخاطرها جابراً، فما لها من دونه أحد.

وفجأة دون سابق إنذار انصرفت عنِّي بعدما قررت أن الحديث بيننا قد انقضى، وخطت خطوات طوالاً دون أن تخبرني عن موعد لقائنا التالي، ومن ثم التقطت القنديل الزيتي بأناملها الصغيرة، وضمته إلى صدرها، وبكل ما فيها أحاطته وظلت به متشبثة كي لا يضيع أو ربما حتى لا تضيع -هي- وشاهدت ثلاثتهم من بعيد؛ رفيقتي، وشالها البحري، والقنديل الساطع ضيّه، يتوسطون البحر الغريق مستسلمين لما قد يسوقهم من أقدار، ومن مكان ما لم أعرف مصدره ظلت الحورية السورية تردد "ع الشط فوق الرمل قاعد ناطرك، لا ترجعي من البحر تا إرجع معك".

 لا تزال صاحبتي في نظري أبهى درة كشف عنها بحرنا الأزرق، وستظل سراً لا يستحق المارة أن يُكشف لهم، وستبقى في أنظارهم مجرد صبية مليحة يانعة تقضي ساعة الغروب في كنف البحر؛ فهي كما عهدتها تقبض على الجمر الأكثر إيلاماً براحة كفيها وتمضي. تركتني الرفيقة لحالي وأسئلتي: أسيعود لها بحارها؟ وإن عاد فكم من الوقت قد يكون انقضى؟ أسيظل يهتدي إلى طريقه بقنديلها؟ أم تراه قد يكون اختار ألا يلتفت مرة أخرى حيث تركها؟ لن أجزم أن لديَّ الإجابات كاملة، ولن أوصيها بأن تقطع أوصار الأمل وتنصرف حيث لا يستطيع أن يجدها، فأنا لا أملك من الأمر شيئاً سوى أن آمُلُ ألا تظل في الطلل وحدها، وأن ترسو هي الأخرى إلى ميناء تحت جناحه يظلها، وألا يشقى بعد اليوم ما بقي نقياً في قلبها.   

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ساندي ياسر
كاتبة مصرية
اسمي ساندي ياسر عبدالمنعم، وعمري 22 عاماً، أنهيت دراستي بكلية الألسن في جامعة عين شمس بالقاهرة العام الماضي، حيث درست اللغتين الألمانية والإنجليزية، شاركت من قبل بمقالات مختلفة في ثلاثة كتب ورقية في معرض الكتاب بالقاهرة؛ اثنان لدار إنسان، والآخر لدار كتبنا، وشاركت بعدة مقالات في مدونات HuffPost مسبقاً، وبمقالات أخرى في جريدة «اليوم الجديد»، وفي أثناء دراستي شاركت في عدة مسابقات أدبية في قسم اللغة العربية بالكلية، وحصلت في المرة الأولى على المركز الأول في المقال، والأخرى في القصة القصيرة. وحالياً أعمل في قسم الموارد البشرية بإحدى شركات التوظيف العالمية.
تحميل المزيد