بين شكة الدبوس وطعنة السكين.. في رثاء حنان كمال

عدد القراءات
3,785
عربي بوست
تم النشر: 2019/05/05 الساعة 15:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/05/05 الساعة 15:31 بتوقيت غرينتش
"حنان كمال" الصحفية المصرية الراحلة بعد صراع طويل مع السرطان

"أنا غاضب من الله"

تعتمل هذة الجملة في نفس الكثيرين بعد أي ابتلاء يمرون به.. لكن التصريح بهذه الجملة ومحاولة فهمها دون تكفير لن يساعدك فيه إلا القليل من الذين عرفوا البلاء حقاً.. وأحبوا الله صدقاً

من هؤلاء القلة النادرة.. حنان كمال.

أُصبت مؤخراً بألم شبه دائم في كتفي بسبب عملي في تلك الدولة الصناعية الآسيوية التي أقيم بها الآن، حيث يتضمن العمل على روبوتات التصنيع الضخمة الكثير من العمل البدني.

الألم يشبه تماماً وحرفياً دبوساً مغروزاً في الكتف حتى آخره.

أثناء وقوفي عابس الوجه أمام الروبوت القاسي أخرجت هاتفي وفتحت المحادثة مع حنان وكتبت هذه الجملة "أنا غاضب من الله"

ردت حنان سريعاً "اسعَ للوصل.. دة وصله حلو فوق ما تتخيل"

عرفت فيما بعد أن حنان قد ردت علي وهي في إفاقة قصيرة من غيبوبات الألم الرهيب التي تعيش فيها منذ أعوام متواصلة، وكانت هذة آخر محادثة معها.

إن كنتَ غاضباً قاطعاً للوصل مع الله لما تعتقده ابتلاء منه فإليك لمحة بسيطة عن حياة أستاذتي وأختي الكبرى حنان كمال.

صحفية وإعلامية "شاطرة" موهوبة مبدعة، تعيش حياة سعيدة مع زوجها الموهوب المبدع "أحمد نصر"، بعد أن جمعتهما قصة حب جميلة التفاصيل أتمها الله بالزواج وبأسرة صغيرة سعيدة وأطفال يشبهونهما في الموهبة والنشاط.

تعود الأسرة إلى مصر من الدولة التي يقيمون بها بالخارج في إجازة قصيرة لتنقلب الحياة رأساً على عقب.

حادث سيارة يخرج منه الزوج أحمد مصاباً في جسده بأكمله ولاسيما رأسه، يفيق من الإصابة بجسد محطم يحتاج إعادة بناء، وإدراك عقلي محطم بأقسى من تحطم الجسد، فتصبح مسؤولية الأسرة على عاتق حنان وحدها التي أضيف لمسؤولية تنشئة أطفالها طفل آخر بجسد رجل كبير،

مسؤولية مخيفة حملتها حنان برضا وتفاؤل بشفاء أحمد وثقة بالله لم أكن أفهمها أبداً.

حينما كنت أشعر أن يومي متخم بالمهام كنت أنظر إلى يوم عادي من أيام حنان؛

إيصال الأطفال من وإلى المدارس، التفوق والإبداع في عملها الإعلامي في تلك القناة الشهيرة حيث التنافس شديد والترقي صعب، حمل زوجها حملاً للخروج يومياً في إطار العلاج الطبيعي حتى يتعلم المشي من جديد بالإضافة إلى الحديث المركز معه لاستعادة الذاكرة والإدراك، ثم الحديث التربوي المرتب مع الأطفال ومراجعة دروسهم، ثم أجد بعد كل ذلك مكالمة من حنان تدعوني فيها إلى "طبق بامية باللحم" بعد أن أخبرتها أثناء ما كانت تقوم بتعليمي صباحاً آلية كتابة "سكريبت" برنامج، أنني لا أحب البامية ولا آكلها أبداً.

أكلت البامية وأحببتها من يد حنان وتعلمت الإعلام بدفعة قوية من خبرتها الواسعة وشاهدتها تأخذ من الابتلاء والمحنة سبباً للتقرب من الله والتغزل فيه بنزعتها الصوفية غير ذات الطريقة "الدرويشة"، كانت تصف نفسها وكانت طريقتها في حب الله تجعلك ترى مخلوقاته وقد تسخرت لك فتنسى البلاء والهم

كتبت "أشم رائحة النهايات

كرائحة العشب في المطر.. كرائحة الصدأ.

أحب الصدأ

لأنه علامة المحبة التي جمعت النهر بالجسر".

ما إن بدأت الحياة في الاستقرار نوعاً ما بعد مصاب أحمد وعودة الأسرة لمصر وترقي حنان في عملها، كانت الدرويشة على موعد مع ابتلاء أكبر مع المرض الخبيث.

رحلة حنان مع السرطان كانت معركة المعارك في حب الله كما قالت لي، إن هي يئست من رحمة الله ستُغلب وينتصر الألم.

لذلك انتصرت حنان انتصارات متتالية وكان الورم الخبيث يزول كل مرة لأجد حنان قد تغيرت وارتقت روحها درجة في كل مرة.

كتبت: "أنا أعيش مع الموت فعلاً، أقترب من حافته كثيراً، حتى حدثت بيننا ألفة، تخلصت من الخوف منه فصار وديعاً، وأعتقد أنني حين تخلصت منه صار هو يخاف من صلابتي".

كانت انتصارات حنان المتتالية تزيد من علاقتها مع الله، رغم بساطة الكلمة لكني أُقسم أن أحداً لم يعرف علاقة مع الله حقاً كما عرفتها الدرويشة، كان الورم الخبيث يختفي من مكان ليظهر في آخر فتبدأ حنان معركتها الجديدة بلا أدنى ذرة يأس وكنت أتعجب منها، فالبعض مات من اليأس بعد أول معركة مع هذا المرض والبعض قتله القنوط من أمراض أقل.

في ظل هذه المعركة المحتدمة كتبت حنان كمال كتاباً هو حقاً غريب، غريب جداً، اسمه "كتاب المشاهدة" لن أتحدث عنه، إذا وجده أحد فليقرأه.

في آخر محادثة بينما كنت أشكو لها شكة الدبوس في كتفي سألتها عن شكل الألم الذي تشعره الآن في هذه اللحظة فقالت بصوت هادئ لن أنساه ما حييت "كأنه سكين بحجم كف يدك مغروس بين ضلوعي ويتحرك ببطء.. والحمد لله".

يا الله كم عانت حنان.. شكة دبوس دون إيمان برحمة الله قد تجعلك من القانطين.. وطعنة سكين يغلفها الوصل بالله قد ترفعك مراتب الصديقين.

توفيت منذ ساعات أختي وأستاذتي الدرويشة الصوفية الصابرة حنان كمال، لن أسألكم الدعاء لها بقدر ما سأذكركم ونفسي بالدعاء لأنفسنا أن يرزقنا الله بعضاً مما تركت حنان كمال من قصص الصبر ونذراً يسيراً من حبها للحياة ولله.  

أختم رثائي لنفسي برحيل حنان بكلمات كتبتها هي تحمل في طياتها رثاء حقيقياً لها وإطاراً ذهبياً لحياة قصيرة عاشتها فغيرت في كل من عرفها الكثير.

تقول:

"الندوب التي تتركها قطرات المطر، اللون الكالح، أو الملوح جراء التعرض للشمس، كل هذا يعني أنك مررت بالتجربة، أنك لم تكن محمياً في قوقعة مخملية، ويعني أنك تعيش حقاً، وأن ثمة حياة مرت من هنا، والحياة لا تدللنا قدر ما تترك ندوبها علينا، هذه الندوب جميلة بالفعل".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد سعد
صحفي مصري
صحفي مصري عملت بعدة قنوات عربية بين القاهرة و إسطنبول
تحميل المزيد