خلال معركتنا تجاه شر المشروع الصهيوني وداء الاستكبار العالمي لقرنٍ من الزمن أو يزيد نتحدث اليوم عن سلاح توظفه قوى الأمة المناصرة للقضية الفلسطينية وتتسمك به القوة المقدسية منذ قرون للحفاظ على عقيدة وهوية بيت المقدس، هذا السلاح هو سلاح العلم والمعرفة. فالمشروع الصهيوني بصحبة المشروع الغربي الاستكباري منذ بداية احتلال فلسطين وزرع وعد بلفور وهو يُرَكَّز قبل الاحتلال الميداني على احتلال العقول والتخطيط الاستراتيجي لضرب عمق الأرض ووارثها وهو الإنسان، سعياً لتخريبه من الداخل وتحويله إلى إنسان وعبد يستقبل الاحتلال البريطاني والصهيوني بالورود.
هي فعلاً قوة كبيرة علمية وتخطيطية صهيونية وغريبة وظفت فيها أشد الآلات الإعلامية والناشرة للتمهيد للمعارف والأفكار الباعثة على طَمس التَّاريخ والهوية من أجل التأثير على عقول الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية ونقلها إلى أوعية لها قابلية الاستعمار، لكن الهزيمة كانت مآلهم لضرب عمق الإنسان وهويته وفطرته.
حَرب أخرَى.. هل نَفْقَهها؟
هي إذن حرب أخرى قد لا نلقي لها بالاً، لكن لأهميتها وقوتها رصدت لها دول وعدِ بلفور ومؤسسات المشروع الصهيوني ميزانية خاصة من الأموال لصناعة مراكز دراسية وعلمية، لها الدور في صناعة خطط وقرارات وصناعة الترويج للوطن القومي اليهودي، ولها دور تخريبي لضرب العقل العربي المسلم وتزوير تاريخه، وأظن أن أول دعاية صهيونية ساهمت فيها القوة الانتدابية البريطانية وهي دعاية، باع الفلسطينيون أرضهم.
بعد مائة سنة من الاحتلال وجهود علمية واستراتيجية ودراسية للتقويض من العمق الإنساني العربي والمسلم عقلاً وتراثاً وعقيدة فشلت الآلة المعرفية الصهيونية بمعية القوة العسكرية والسياسية في لي إرادة الشعب الفلسطيني وفشلت أيضاً في التأثير على الشعوب لطمس تاريخ وحضارة فلسطينية، بل وعقيدة وآيات ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم ومبعث الرسالات ومركز الجهاد والتغيير وقيادة الأمة.
أمام هذه الهزيمة الصهيونية بل والغربية في حرب العلم والمعرفة والدراسات، توجه المشروع الصهيوني إلى مستوى من العلو عبر إخراج أحجامه من جحورها بتوجه آخر وشكل جديد وهو صفقة القرن، من خلال اصطفاف القوة الصهيونية بالأمريكية العنصرية والعربية الاستبدادية والأوروبية المتطرفة لضرب عمق الإنسان الفلسطيني والعربي والمسلم بعد فشل الآلة الصهيونية في ذلك.
فكانت محاولات حثيثة خصوصاً العربية الاستبدادية منها من خلال استراتيجية التطبيع للتأثير على الشعوب من خلال النخب المثقفة والسدة الحاكمة والسياسية للترويج إلى الكيان الإسرائيلي باعتباره عنصراً مقبولاً، له حق في تاريخه، ووجوده في فلسطين.
ورغم الجهود لتغيير المناهج الدراسية العربية والفلسطينية لخدمة الأجندة الصهيونية والهولوكست، ورغم محاولات تزوير التاريخ وظهور طبقات عربية تمجد المشروع الإسرائيلي وتصحف التاريخ الإسلامي فإن الشعوب العربية والمسلمة كانت رافضة لهذا الكيان.
سؤال المعرفة
لكن السؤال المطروح، هل يحق لنا الاكتفاء بمواجهة الآلة المعرفية الثقافية الصهيونية والعربية الاستبدادية المروجة للكيان بما نملكه فقط من قوة الفطرة وحب مجبول عن فلسطين وعشق موروث مكتسب، أم أن المواجهة ينبغي أن تنتقل ارتقاءً وسمواً من الدفاع الذاتي الفردي الفطري إلى الصناعة المعرفية المتقنة المؤسساتية الجماعية المنظمة؟
أعني هنا إذا كان المشروع الصهيوني منذ مئة سنة بصحبة الاستكبار العالمي يصنع معارف ودعايات ودراسات وفق استراتيجية منظمة من أجل الاحتلال وتمهيده، فإن الأولى بأهل العلم، وأهل أمة اقرأ، وأمة (لنريه من آياتنا) أن تنسج استراتيجيات لصناعة قوة علمية معرفية تؤثر في الأجيال، وتصحح المفاهيم، وتحفظ التراث، وتذكي فينا اليقين في وعد النصر، وتوضح لنا رؤية التحرير وكيفيته، وترصد لنا معنى التاريخ الحقيقي للشعب الفلسطيني والعدو المحتل وأطرافه وأحجامه.
نموذج حي لسلاح المعرفة.. الموسوعة
هو مشروع جديد الانطلاق، موسوعي شامل متخصص جاء في فترة حرجة من تاريخ فلسطين، في مرحلة قمة التطبيع العربي الصهيوني لتمرير صفقة القرن وتصفية القضية الفلسطينية، أقدس مقوم للأمة وآخر أمل لها، بل والبوصلة المحفزة المعبئة للشعوب بالأمل والتحرك للتحرر.
لطالما كنت أتحدث متهماً في (مرحلة مواجهتنا للآلة المعرفية الصهيونية) مع الرواد وجملة من الباحثين في ملتقيات عن فن الصناعة المعرفية والعلمية لتبسيط المعلومة في أوعية متطورة إلكترونية، وإن موسوعة المخيمات الفلسطينية مبادرة مباركة لسواعد فقهت أن الأمة (في غياب دول تدعم مادياً أو تحتضن) لا بد لها أن تبدع وتبتكر وتوظف الطاقات بدل البكاء والانتظار الممل.
لن أخوض في أهمية الموسوعة فقد سبرت أغوارها وفقهت محتواها التوثيقي والتحقيقي والدراسي والتحليلي، لكن أقول إن هذه المبادرة هي قوة سلاحية نوعية وقذيفة قوية ترسل رسالة أننا أمة انتقلنا من الوهن والغثائية إلى أمة الإبداع والصناعة والإحسان من بوابة جهاد تسمى العلم تصطف مع بوابات جهادية أخرى.
وفي الأخير أبارك هذا المشروع العلمي الذي سبقته كذلك مشاريع أخرى علمية مباركة لا نبخسها حقها، لكن أملنا أن تتضافر الجهود المعرفية لتلتقي وتصطف لتقدم أكثر، وتبدع أكثر، وتحتضن أكثر، في مرحلة نلحظ فيها أن الاستكبار الصهيوني والعربي الديكتاتوري والأمريكي كشر عن أنيابه لإعادة العقل العربي والمسلم إلى الحضيض.
وختاماً أقول إن فطرة الأمة حاضرة لكن بمعية نور الفكرة، وتنظير رجال الفكرة قد تكون النتيجة أعظم وأشمل لصناعة شخصية متكاملة وجامعة بين إيمان الفطرة والروح وقوة الفكرة والقلم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.