ارتبط شم النسيم في الفلكلور المصري بأكلات خاصة، أشهرها بالطبع سمك الفسيخ.
الفسيخ من أشهر الأكلات المصرية التي ارتبطت في الوجدان الشعبي باحتفالات شم النسيم، ومثله مثل الفول المدمس الأكلة المصرية الأشهر على الإطلاق، هذه الأكلات تضرب في عمق التاريخ المصري وتعتبر أغلبها أكلات فرعونية، وبالنظر إلى الفسيخ مثلاً وأصله في التاريخ، فقد اشتهر الفراعنة بحذقهم ومهارتهم في حفظ اللحوم والأسماك، حتى إن الحفريات اكتشفت في بعض المقابر المصرية أطعمة محفوظة، منها الفسيخ.
وبعض المفسرين أشار إلى أن حوت سيدنا موسى المذكور في سورة الكهف ما هو إلا فسيخة.
وإن كان المصريون القدماء أول مَن حفظ الأسماك بالتمليح، إلا أنهم ليسوا الشعب الوحيد الذي يعشق الفسيخ، فلقد انتشر الفسيخ من مصر إلى كل الدنيا آسيا وأوروبا وأمريكا وإفريقيا، فتجد محلات الأسماك المملحة، خاصةً الفسيخ في جميع أنحاء العالم، وقد كانت مفاجأة شخصية لى أن أجد محلات فسيخ في الإمارات وكندا وإيطاليا.
نأتي الآن إلى القيمة الغذائية للفسيخ:
أظهرت الأبحاث (shady et al.,2015) ; (rabie et al.,2009)
أن الفسيخ له قيمة غذائية كبيرة، فهو يحتوي على نسبة كبيرة من البروتينات من 16 إلى 21%، كما يحتوي على نسبة كبيرة من الأحماض الأمينية وأيضاً على نسبة كبيرة من الأحماض الدهنية المشبعة وغير المشبعة، وتصل نسبة الدهون إلى 11-17% تختلف حسب التصنيع ونسبة الملح فيما بينها… كما تحتوي على نسبة كبيرة من الفيتامينات والمعادن، وهو ما يجعله عالياً من ناحية القيمة الغذائية.
ولكن
أظهرت دراسة أخرى على الكائنات الحية الدقيقة في الفسيخ (Azza and rabab,2015)
أن عدد البكتيريا والكائنات الحية الدقيقة يزيد إلى 45 يوماً من التمليح ويقل بعدها.
ولكن لم يتم اكتشاف Clostridium التي تسبب التسمم الغذائي في الفسيخ والتي يتم عزلها من الأمعاء نهائياً والتي كان لها الأثر الأكبر في التسمم الغذائي الذي حدث في كندا عام 2012، وأثار ضجة وأرجعوا السبب وقتها إلى سوء عملية التمليح والتخزين التي تؤدي إلى نمو هذه البكتيريا في الأمعاء ونشاطها الزائد، وإنتاج سمومها داخل الفسيخ، مسببةً التسمم الذي قد يؤدي إلى الموت، لذا أوصت جمعية إخصائي التغذية الكندية بتجهيز الفسيخ مع إزالة الأمعاء منه في أثناء عمليات التصنيع.
وأنا أيضاً أوصي بذلك؛ حرصاً على السلامة، مع الحذر لمرضى الضغط والقلب والسكر، حيث إن زيادة الأملاح يمكن أن تؤدي إلى هبوط حاد وارتشاح رئوي وهبوط عام وذبحة صدرية وارتشاح بالمخ لمرضى القلب.
لذا يوصى باستخدام البصل الأخضر والخس والخيار، لتقليل ملوحة الفسيخ مع عدم الإسراف، فلا تتجاوز الكمية 150 غراماً.
وأيضاً تعرُّض الفسيخ لدرجات حرارة عالية لمدة 10 دقائق مثلاً بإمكانه الحد من بعض السموم ما عدا الـclostridium، فهي لا تتأثر بالحرارة ولا أي معاملة.
طريقة عمل الفسيخ:
هل الفسيخ سمك معفن؟
الفسيخ بالتأكيد ليس سمكاً معفناً، الفسيخ بل سمك مخمر.
وهناك فرق كبير بين التعفن والتخمر:
طريقة التخمر تُجهز بها أطعمة كثيرة جداً.. فمثلاً، الزبادى مُخمر، واللبن الرايب مخمر، والجبنة الفرنسية التي يُقال "جبنة معفنة"، هذه جبنة مخمرة، المخلل مُخمر، الشوكولاتة، القهوة، الصويا صوص، البيرة حتى الخبز، كل هذه أطعمة صُنعت بطريقة التخمر. وهي نفس فكرة تحضير الفسيخ وإن اختلف نوع الأكل.
هناك نوعان من البكتيريا؛ نوع مفيد أو على الأقل غير ضار للإنسان، وهذا يمثل 99% من البكتيريا ( التي يقضى عليهم ديتول بالمناسبة ) ونوع ممرض لا يتعدى 1%.
والمهم بالنسبة لنا هو الابتعاد عن تربية هذا النوع الممرض في طعامنا الذي نتناوله.
وجود البكتيريا المفيدة وتكاثرها يمنعان البكتيريا المضرة من الوجود على المكان نفسه أو الطعام نفسه.
البكتيريا الضارة تستطيع الانتصار عليك أنت، لكنها لا تتمكن من فعل ذلك مع زملائها من البكتيريا النافعة، الأمر هنا يشبه وضع اليد عند امتلاك الأراضي مثلاً. البكتيريا التي تستطيع النمو أولاً هي التي تفرض سطوتها وتصبح صاحبة المكان. لذلك في عملية التخمر من المهم جداً تهيئة الظروف للبكتيريا المفيدة، لتتمكن من الاستحواذ على الطعام.
التخمر والتعفن يشبه أحدهما الآخر، من حيث إن كليهما تقوم به بكتيريا، وخلالهما تُكسر المواد العضوية حتى يتغذوا عليها لمواد أصغر.
ما يختلف هنا أن عملية التخمر يمكن لنا التحكم فيها عكس عملية التعفن.
فى الوسط اللاهوائي (الذي يُحضر فيه الفسيخ ) تكسر البكتيريا المواد العضوية لحمض اللاكتيك، وتقف أو تكسر قليلاً من حمض اللاكتيك لثاني أكسيد الكربون والكحول.
هذا الوسط ينمو فيه نوع من أخطر أنواع البكتيريا وأكثرها فتكاً هي الكوليستريديوم.
فيهمني جداً أن أمنع نموها.
الكوليسترديوم لا تتمكن من النمو في وسط حمضي (PH<5) أو وسط سائل به ملح (salt intolerant) وهذا ما يحصل في عملية تخمر الفسيخ، لكن البكتيريا المفيدة تقدر على تحمّل الملح (salt tolerant) والحمض عند تركيزات عالية.
ألا يعني هذا أن البكتيريا المفيدة ستظل تأكل في الفسيخ حتى تُنهيه تماماً، ماذا سنأكل إذاً؟
عملية التخمر تظل مستمرة ما دام حمض اللاكتيك يتم سحبه من الوسط، لكن ما دام الوسط مقفولاً، فسنجد اللاكتيك موجوداً وتركيزه يزيد ويوقف العملية عند مرحلة معينة.
لكني ذكرت أن هناك جزءا منه يتكسر لثانى أكسيد الكربون والكحول!
حتى لو كان هناك جزء كُسر فسيظل موجوداً في هذه البيئة المعزولة ولن يخرج وستقف العملية، لذلك نجد الكيس الأسود الذي يُصنع فيه الفسيخ في أغلب الأحيان منتفخاً.
أمر أخير، عملية التخمر هذه أصلاً كانوا يقومون بها لحفظ الطعام والإبقاء عليه صالحاً فترات طويلة لحين استخدامه. لكن التخمر لا يحفظ الأكل، ويضيف له طعماً فقط، لا بل هو مفيد أيضاً، لأنه كلما زادت أنواع البكتيريا غير الضارة في المعدة، تتحسن عملية الهضم وتنتظم معدلات الحرق وتمنع السمنة، كما أن هناك حالياً أدوية للسمنة تعتمد على كبسولات بها بكتيريا أنواعها متنوعة.
الفسيخ مثله مثل مليون صنف من الطعام يتم تحضيره بعملية التخمر، فإياك ثم إياك تسمح بأي شخص تسول له نفسه يتطاول على الفسيخ ويخبرك بأنه "سمك معفن"، لكن تأكد جيداً من مصدر الفسيخ وسلامه تمليحه.
وأخيراً هذه نصائح مهمة لأكل الفسيخ:
- يجب وضع الفسيخ والرنجة في حالة تجمد مدة 48 ساعة قبل الأكل، لأن هذا يقضي على فرص نمو كثير من البكتيريا، ويقتل ما يوجد بها من طفيليات وجراثيم في أثناء عملية التصنيع.
- ينصح بإضافة الليمون وتناول الخس والخيار، وذلك لتجنب الإصابة بارتفاع حموضة المعدة كما ينصح بغسيل الفسيخ والسردين بالخل المخفف مع عصير الليمون، لتقليل نسبة الملح به.
- عدم الإسراف في تناول الفسيخ، حتى لا يسبب متاعب صحية نحن في غنى عنها، حيث لا يتناول الفرد أكثر من 150 غراماً من الفسيخ في الوجبة الواحدة، وعامة ننصح بتناول البصل الأخضر والبقدونس والبرتقال والموز والكنتالوب الغني بالبوتاسيوم، ليساعد على إخراج الملح الزائد من الجسم، كما يفيد تناول الكركديه والبقدونس في إدرار البول، وكذلك تناول الأعشاب التي تساعد فىي تطهير المعدة ومقاومة التلوث مثل الشاي الأخضر مع النعناع أو الزعتر أو القرفة.
- وأحذر أيضاً من تناول الفسيخ للأشخاص الذين يمثل لهم الفسيخ خطراً على صحتهم، وهم الأطفال دون الثالثة، والحوامل والمرضعات، ومرضى القلب والكبد والكلى وقرحة المعدة وضغط الدم المرتفع.
وبالهناء والشفاء
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.