إياك أن تكون كوافد البراجم

عدد القراءات
2,468
عربي بوست
تم النشر: 2019/04/28 الساعة 16:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/04/28 الساعة 16:54 بتوقيت غرينتش
وافد البراجم الرجل البائس الذي بنى آماله وأحلامه على وهْم أبعد ما يكون عن الحقيقة

ورد في كتب الأدب أن رجلاً من قبيلة تميم قتل في الجاهلية شقيقاً للملك عمرو بن هند، الذي قتله بعد ذلك الشاعر الفارس عمرو بن كلثوم صاحب المعلقة الشهيرة، فلما علم الملك بمقتل أخيه جُنّ جنونه، وقام من ساعته للأخذ بثأر شقيقه من جميع مَن ينتمي إلى بني تميم.

ذهب عمرو بن هند بجمعه إلى مضاربهم فسبقه خبر مسيره إليهم، فوجدهم قد تفرّقوا، وعن مضاربهم قد هربوا، فزاد غضبه واشتد غيظه وجال بين خيامهم جولة، علَّه يجد أحداً يفرغ فيه غيظه، ويأخذ منه بثأره، فوجد سيدة عجوزاً قد أخذ الكبر منها كل مأخذ، فسألها عن نسبها فأجابت أحسن جواب، واشتدت عليه في الخطاب، وأعلمته بأنها من عقائل قومها، سيدة بنت سيد، وزوجة سيد، وأم سادة، فأعماه الغيظ عن مراعاة تقاليد العرب التي تصون دم المرأة وتستقبح من يقحمها في ثأر الرجال، وصمم على قتلها، وأمر بإيقاد النار لحرقها -ولذلك سموه في التاريخ بالمحرق الثاني- فلما همَّ برميها في النار قالت له: "أنت والله لا تقتلُ إلا النساء، ووالله ما أدركتَ ثأراً ولا مَحوتَ عاراً، وما مَن فعلتَ هذه به بغافلٍ عنك، ومع اليوم غد".

فلما ألقى بها في النار تكاثف الدخان، وخرج إلى عنان السماء، فلمحه رجل من بعيد، كان الجوع قد بلغ منه كل مبلغ، فظن أنه قد رُزق أخيراً بما يبلغه، فجَدَّ في السير والأمل يحدوه، فلما وجد موكب الملك عمرو بن هند فرح وقال لنفسه: إن الملك يُطعم الناس فيالحسن حظي وسِعَة رزقي، وها هو الملك يتملى فيه ويشير تجاهه ويغذ السير إليه.

فلما اقترب الملك من الرجل، سأله ممن الرجل؟ فأجاب الرجل قائلاً إنه من البراجم -والبراجم بطن من بطون من تميم- فاستغرب الملك وقال وما الذي أتى بك؟ فأجاب الرجل: "طويت -أي جعت- أياماً فلما رأيت الدخان عرفت أنك تطعم الطعام"، فأمر به الملك فجعله طعاماً للنار، وقال: "ما أشقى وافد البراجم"، فأرسلها مثلاً.

وقد سخرت العرب من يومها ببني تميم وعيرتها بالقرم (الرغبة الشديدة لأكل اللحم) وقال الشاعر يعيرهم بهذه الوقعة:

إِذَا مَا مَاتَ مَيْتٌ مِنْ تَمِيمِ

فَسَرَّكَ أنْ يَعِيشَ فَجِئْ بِزَادِ

بِخُبْزٍ أَوْ بِلَحْمٍ أَوْ بِتَمْرٍ

أَو الشَّيءِ الْمُلَفَّفِ فِي الْبِجَادِ

تَرَاهُ يُنَقِّبُ الآفَاقَ حَوْلاً

لِيَأْكُلَ رَأْسَ لُقْمَانَ بْنِ عَادِ

كلما قرأت هذة القصة شعرت بالرثاء من أجل وافد البراجم القتيل، ذلك الرجل البائس الذي بنى آماله وأحلامه على وهْم أبعد ما يكون عن الحقيقة، وتصورت شعوره وهو يتحرك ناحية خط الدخان، وهو يمنِّي نفسه بإشباع جوعه، وتحقيق أمنيته في الإحساس بالامتلاء، حتى وجد قبره محفوراً عند نهاية أمله.

وكلما أمعنت التفكير في هذه القصة المحزنة، وجدت أن معظمنا يفعل مثل صنيع هذا الرجل، فمن منا لم يُلهِهِ تلهُّفه على الوصول إلى شهواته، عن تبصر الطريق الذي تطأه قدماه، والنظر إلى نهاية طريق إشباع هذه الشهوة.

وافد البراجم تعيس الحظ هذا يذكرني أيضاً ببعض الفقراء من معدومي الضمير، الذين جلبتهم رائحة المحارق التي أقامها قادة ما سُمّي الثورات المضادة لمن وقف أمام ظلمهم وتقويضهم لبناء العدالة التي شرعت ثورات الربيع العربي في تشييده، ولكن الفارق الأساسي والجوهري بين وافد البراجم بطل القصة، والفقراء من مويدي الثورات المضادة أن وافد البراجم لم يكن يعلم أن الدخان الذي جذبه إلى نهايته كان دخان شواء لحم أخته في الإنسانية، بعكس مؤيدي الثورات المضادة الذين كانوا يتلمّظون على شواء أخوتهم من بني الإنسان، وهللوا ورقصوا لمن قام بهذا الفعل الشنيع، فلما جاءوا يطالبوا بنصيبهم من هذا الشواء بطش بهم الطغاة وداسوا على رقابهم، فلم يحصلوا شرف الوقوف أمام الظالم في صف الحق، ولم ينالوا اللذة المحرمة التي كانوا إليها يهرعون.

فاتقي أن تكون كوافد البراجم.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
علي خيري
كاتب ومحامٍ مصري
كاتب ومحامٍ مصري
تحميل المزيد