لا أعرف من أين يمكن أن ينطلق الحديث عن سيدة مصرية لا حول لها ولا قوة، لا حق لها في رأي ولا حرية ولا صحة، يقتلها المرض كل يوم داخل محبسها وتسأل: هل من مغيث؟
قررت بعد أن نال المرض منها واستقوى، أمام أعين السجان وموظفي الدولة المسؤولين عن العدالة الجنائية وتطبيق القانون، أن تكتب رسالة تشكو فيها قلة حيلتها ومرضها وإصرار السلطات على قتلها عمداً بإيداعها في مقر احتجاز لا يتوافر فيه الحد الأدنى من معايير الصحة والسلامة.
أردت أن أُعرفكم بصاحبة الرسالة قبل أن تتعرفوا على ما تعانيه من مرض، إنها المواطنة المصرية رباب عبدالمحسن عبدالعظيم محمود، ٣٦ عاماً، أرملة وأم لأربعة أبناء، فرّق شملهم اتهام ادعته الأجهزة الأمنية بأنها تقوم بدعم جماعات إرهابية وتصنيع متفجرات، اتهامات ساقتها إلى المجهول، عندما اعتقلتها قوات الأمن الوطني من منزلها الكائن في الحي العاشر بمدينة نصر في القاهرة، بتاريخ ١٥ أكتوبر ٢٠١٦، لينقطع الاتصال بينها وبين ذويها ومحاميها لمدة عشرة أيام.
ظهرت بعد ذلك رباب في نيابة أمن الدولة أثناء التحقيق معها في الاتهامات المنسوبة إليها في القضية رقم ٧٨٥ لسنة ٢٠١٦، اتهامات لا أجد سياقاً منطقياً للتعامل معها، فكيف لأرملة تعول أربعة أبناء وتقوم بدور الأب إلى جانب دورها كأم أن تدعم جماعات إرهابية وتقوم بتصنيع متفجرات؟!
وصلتنا منذ يومين رسالتها وقد كتبتها بخط يدها، تخطت وصف المعاناة بحيث لا يستطيع قارئها التعبير عن هول الحالة بكلمة، أو أن يروي عنها دون تأثر وحزن تراه أعين المستمعين قبل أن تسمعه آذانهم.
كتبت رباب،،،
(بسم الله الرحمن الرحیم
هل من أحد يهتم لأمري؟!
إن وجدت من يهتم لأمري فهذه رسالتي إليه
يا سيدي يا من تكرمت واهتممت لأمري /…..
اعلم أنني لم أكتب هذه الرسالة إلا بعد أن فاض الكيل وزاد.
عندما قبض عليّ كنت أشتكي من بؤرة صغيرة جداً في الكبد والتحاليل والأشعة المبدئية أثبتت أنها بؤرة سرطانية. وبعد دخول السجن سنة 2016 بعد مرحلة العذاب الأولى من أمن الدولة وصلت لمرحلة العذاب الثانية وهي معاناتي في سجن القناطر وأطباء مستشفى سجن القناطر، وما كان في حسباني أن تكتب التقارير في ذلك الأمر لأنني أعلم جيداً أنهم يخشون ذلك، حُجزت في مستشفى سجن القناطر لأكثر من عام ونصف بسبب الغيبوبات المتكررة نتيجة تليّف الفصّ الأيسر من الكبد وتضخم الفص الأيمن، فهذا هو المثبت، وكانت معاناتي في إثبات المنفي وهو البؤرة السرطانية، وبدأت مرحلة جديدة من المرض وهي تقيؤات الدم الأسود المتكررة المصاحب بألم لا يوصف، وطالبت بخروجي لعمل أشعة تداخلية بالقصر العيني حتى آخذ علاجاً وتتوقف هذه المعاناة؛ لكن للأسف التقرير الذي سيبنى عليه خروجي قال إنه "مفيش أي مشكلة في الكبد"، ونفوا المثبت عندهم أصلاً، وقال إن المشكلة أن عندي التهاباً في المعدة بسيطاً، ولما جادلت الطبيب الذي لا أعلم رتبة حضرته إيه، فكيف يبتعد في التقرير عن معاناتي الأساسية ويكتب عن العرض وليس المرض، وعندما قلت له هذا التقرير على مسؤوليتك قال: "ما هوا علشان على مسؤوليتي"، قلت حضرتك فاهم خطأ عندما قلت على مسؤوليتك المقصود أمام ربي وليس أمام أحد من البشر، أخفض عينيه للأرض للأسف، الله المستعان.
والله ما كنت أكتب عن حالتي إلا بعد أن نفد الصبر والتحمّل، فالألم أصبح يفوق مقدرتي على التحمُّل وللأسف لم يتحرك ساكن، فكلهم عبد المأمور كما يقولون.
ربي أبرأ إليك من حولي وقوتي إلى حولك وقوتك
رباب عبدالمحسن عبدالعظيم محمود)
إذا كان القانون، كما تدعي الأجهزة الأمنية، هو الذي أودعها في السجن فأين القانون والدستور الذي جرّم التعذيب والاختفاء القسري؟ أين قانون تنظيم السجون ولائحته التنفيذية، الذي نص على حق السجين في الرعاية الصحية والحماية من أي مرض؟!
أين الإنسانية؟ وأين الرحمة في نفوس من تسببوا في سوء حالة رباب الصحية واستقواء المرض عليها وتركها تواجهه كل ليلة ولا حيلة لها معه إلا الألم وآهات تتبعها آهات؟
أين أصحاب الضمائر من المنتمين للأجهزة المعنية من مثل هذه الحالات، والعمل على إنقاذ سجينة، مثلت الأب والأم في آن واحد عند أربعة أطفال، توفي زوجها وترك لها حملاً ثقيلاً، حالت أسوار السجون وأبت لها أن تستكمل رسالتها معهم وتعويضهم فقدان الأب وتمنحهم حنان الأم؟
لم تخفِ رباب ما بداخلها من شكوك حول اهتمام أحد بها وبمعاناتها، فقد كانت واضحة في مستهل الرسالة، وبعد السؤال قالت (إن وجدت من يهتم لأمري فهذه رسالتي إليه)، فهمي أقرب من حيث القناعة إلى أنها تواجه الموت ولن ينقذها أحد، مثلها مثل العشرات من سجناء الرأي، الذين مروا بما تمر به من إهمال طبي جسيم، ضاعف عليهم الآلم وقتل فيهم الأمل وانتهى بهم أموات!
إن مجرد تطبيق القانون مع رباب وتمكينها من حقها في الرعاية الصحية المناسبة لحالتها أمر طبيعي، لكنه نتيجة حرمانها منه أصبح طموحاً تتشكك في تحقيقه، ولو كُتب لها أن تراه -وهذا ما نتمناه- سيكون بمثابة عودة الأمل في أن تنتهي محنتها لتلتقي بفلذات كبدها.
لن أخاطب المجلس القومي للمرأة الذي لا أرى له دوراً ولا مهامّ في حماية المرأة المصرية، فيكفي أعضاؤه التنافس فيما بينهن داخل أروقة الأندية وقصور عائلاتهم، على أجمل فستان وأحدث سيارة وأغلى خاتم ألماس وبرنامج الرحلات الصيفية في أغلى المنتجعات، وأروع الحفلات، وجداول مزدحمة لا تتسع لأكثر مما ينشغلون به.
وأُذكّر فقط بما تصف به الدولة المصرية نفسها من أنها الدولة المتبنية لحقوق المرأة والساعية لتمكينها وزيادة تمثيلها في مراكز صناعة القرار والمناصب القيادية والبرلمان، فأعتقد أن حق رباب، المرأة المصرية في الحياة لا يقل بل يزيد عن باقي حقوق المرأة التي تتبناها الدولة.
القانون الذي حدد الجرائم، ونص على العقوبات، حدد أيضاً حقوقاً للسجناء والموقوفين، ووضع شروطاً تحفظ لهم كرامتهم وصحتهم وحياتهم، ومسؤولية الدولة متكاملة بالقانون وأمامه، لا يمكن أن تُجتزأ أو أن تطبق السلطات جزءاً وتتجاوز عن الآخر.
وأتمنى أن ينظر السيد وزير الداخلية والسيد اللواء مساعد وزير الداخلية لقطاع السجون، إلى رباب، الأم الأرملة والإنسانة المريضة، التي تحتاج إلى العلاج وإنقاذها من الموت، وإنقاذ أبنائها اليتامى من فقدان الأم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.