كتاب «حفيدة صدّام».. عندما يتحول إرث الجد إلى علامة تجارية!

عربي بوست
تم النشر: 2019/04/24 الساعة 13:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/04/24 الساعة 13:54 بتوقيت غرينتش
كنت سأحترم الكتاب أكثر لو أن حفيدة صدام حسين تجرّأت على الخوض في تاريخ عائلتها، وأجابت عن مصدر ثروة والدتها الهائلة

لغة جسد المُحاوِر وشت بما حاول أن يخفيه، بدءاً من نبرة صوته التي بدت كقضبان حبس خلفها عدم اقتناعه بما ورد على لسانه من عبارات ترحيب ومديح بحق ضيفته الشابة في مقدمة الحلقة، مروراً بلجوئه إلى تشبيك أصابع كفيه في أكثر من موضع، خشية أن تفلت منها إيماءة تبوح بتوتّره، بالإضافة إلى جمود نظراته وهو يحدّثها كما لو كان يعلن على الملأ بياناً عسكرياً أو منشوراً سياسياً… لكن مهلاً، ربما كان ذلك بالضبط ما طُلِب من الإعلامي المخضرم "سلام مسافر" أن يقوم به، في لقاء أثار استياء أغلبية من تابعه، حتى عدَّه كثيرون سقطةً مهنية كان يجدر بمثله تجنُّب الوقوع فيها.

شخصياً، لم يصدمني الإعلان عن حوار  كبير مذيعي القسم العربي في قناة روسيا اليوم RT مع حرير حسين كامل، التي أصدرت كتاباً بعنوان "حفيدة صدام"، لأن ما حدث خلال الشهور التي سبقت إجراءه كان مؤشراً على نهج بدأت وسائل الإعلام الروسية بتبنّيه مؤخراً، فكلما أجريت بحثاً على Google طالعتني عناوين لحوارات وبرامج ومقالات منشورة على موقعَي RT وSputnik باللغتين العربية والإنجليزية مُمجّدة لشخص صدام حسين ونظامه، إذ يبدو أن روسيا بوتين قد عقدت العزم على إحياء مشروع حزب البعث (غير الاشتراكي هذه المرة، فالشيوعية وقيمها قد انهارت مع سقوط الاتحاد السوفييتي!) لمواجهة نفوذ واشنطن في الشرق الأوسط والعالم العربي.

تابعت المقابلة بذهن مشغول باسترجاع تفاصيل كتاب مختلف تماماً عن "حفيدة صدام"، هو رواية "وليمة لأعشاب البحر" من تأليف السوري حيدر حيدر، وتذكّرت حصولي سراً على نسخة من النص المحظور عندما كنت طالباً جامعياً والأثر الذي تركه في نفسي بعد قراءته حتى أني لم أستطع النوم لليال متعاقبة، فالعمل كان يتناول وحشية المجازر التي ارتكبها صدام حسين ونظامه بحق شيوعيّي العراق في السبعينات… سلام مسافر كان أحد المضطهدين وقتها، لكنه نجا بحياته عندما فرَّ إلى موسكو التي أتاحت له إكمال دراسته العليا والعمل فيها حتى بات مذيعاً مرموقاً في منبرها الإعلامي الموجَّه للعالم العربي. تساءلت مع نفسي إن كان الأستاذ مسافر قد فكَّر في رفاق كفاحه الراحلين وهو يكيل الثناء لضيفته، ويطرح عليها أسئلة غاية في "النعومة" كي "تزيل التشويه الذي لحق بعائلتها، وتكشف ما تم تلفيقه بحق جدّها" كما زعمت.

تلك على أي حال لم تكن أول مرة يتم فيها استخدام إرث صدام حسين على نحو براغماتي، ولن تكون الأخيرة على الأرجح، إذ سبق الروسَ إليه الإعلامُ الكردي، عندما أقدمت محطة Rudaw التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني قبل عامين على استضافة بنان حسين كامل (شقيقة حرير)، في حوار طويل، استرسلت فيه بالحديث عن فضائل جدها وحسن معاملته لأكراد العراق!

أذكر أني استشطت غضباً يومَها وأنا غير الكردي، فصور جثث ضحايا "حلبجة" الذين قتلهم جد "الضيفة" بدم بارد كانت قد استقرت في ذاكرتي منذ أن شاهدتها لأول مرة قبل عقود، تحديداً منظر المرأة التي أحاطت صغيرها بجسدها علَّها تحميه من السم الذي أمطرته السماء عليهما بلا ذنب أو جريمة… لم أفهم كيف رضِيَ المسؤولون في رووداو وفي حكومة كردستان بمثل تلك الإساءة الشنيعة بحق آلام شعبهم وشهدائه، لكنني أدركت لاحقاً أن ما حدث كان استخداماً لإرث صدام حسين في المواجهة المحتدمة بين حكومتي الإقليم وبغداد، برئاسة حزب الدعوة (عدو صدّام التاريخي)، التي بلغت ذروتها عند إجراء الاستفتاء على الاستقلال وتبعاته المعروفة.

دول الخليج لم تتردّد هي الأخرى في لعب ورقة صدام حسين على طاولة نزاعها المحتدم مع إيران إثر هيمنة الأخيرة على الساحة السياسية في العراق، وتوسع نفوذها في سوريا ولبنان واليمن… المتابع للخط البياني لتعاطي الإعلام الخليجي مع صدام حسين خلال نصف القرن الماضي سيلحظ تذبذباً حاداً فيه، إذ لم يكن نظام البعث العراقي في السبعينات على وفاق مع جيرانه الجنوبيين، لكن الأمور تغيَّرت مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، التي دعمت دول الخليج خلالها صدام حسين بلا حدود، ثم انقلبت الآية بعد غزو الأخير للكويت وتلويحه بغزو السعودية التي قصفها بالفعل بصواريخه خلال الحرب، وبقي عدواً لدوداً لها حتى إسقاطه، وربما كان ذلك سبب عدم إطلاق الكتاب في أي من المعارض الدولية المقامة في المملكة العربية السعودية كالرياض أو جدّة.

يبدو أن الرأي الخليجي قد استقر على عرض كتاب حرير كامل على هامش معرض الشارقة للكتاب، بالرغم من حقيقة أن مؤلفته وهي ناشرته في نفس الوقت ليست مواطنة إماراتية أو مقيمة في الإمارات كي تحظى بتلك المعاملة الاستثنائية، فهي تعيش في عمّان التي أسّست والدتها إمارة افتراضية لها ولابنائها وحاشيتها فيها منذ عقد ونصف العقد، وكان من المنطقي أكثر أن يُطلق الكتاب في معرض عمان، لكن الأردن كان وما زال حريصاً على تجنّب استفزاز بغداد؛ حفاظاً على مصالحه معها، ولذلك جاء عرض النسخ الأولى في الشارقة كي يبدو الأمر كمبادرة فردية غير مُسيّسة، على عكس ما كان سيحدث لو  تم إطلاق الكتاب في دبي أو أبوظبي  مثلاً.  

لكن ماذا عن مضمون نص حرير كامل، وهل جاء بجديد؟ من الواضح أن الغاية من وراء نشر الكتاب هي ترويج صورة بعينها عن الجد، تخدم مشروع والدتها المثيرة للجدل، فأنف القارئ العراقي لن يخطئ رائحة المُبيّض القوي المنبعثة من صفحاته، وقد يضحك بمرارة مثلما فعلت لسذاجة محاولة تمرير ترجمات ملتوية لأحداث معروفة ومُثبتة، أو الاسترسال في حكايات جانبية غير ذات معنى أو قيمة، أما القراء العرب المُمجّدون لصدام حسين فقد ارتضت ضمائرهم منذ البداية الاصطفاف مع دموية أفعاله، وهم ليسوا بحاجة الى نصوص تبرّئه من الجرائم المنسوبة إليه، لأن الحروب التي شنّها والإبادات التي ارتكبها كانت سبب محبتهم له من الأصل.

كنت سأحترم النص أكثر لو أن صاحبته قد تجرّأت على الخوض بعمق في تاريخ عائلتها، الذي صنع ملامح شخصية الرئيس السابق وتحكّم بنزعاته، أو أنها أجابت عن أسئلة مهمة تراود الناس، عن مصدر ثروة والدتها الهائلة، ونمط العيش الباذخ الذي تنعم به هي وأسرتها في عمّان، والذي لم ير الأردنيون مثيلاً له في أوساط أمرائهم وأميراتهم… للأسف، لم تأت حرير على ذكر أيّ من ذلك، وظنّت أنّ انتقادها لأفراد الدوائر البعيدة عن المركز من قبيلتها كفيل بوسم عملها بالموضوعية، أو أنّها عندما تذكر عبارة ودّ تبادلها جدّها ذات مرّة مع زوجته الأولى، أو مداعبته لأحفاده، أو ترديده لشعارات وطنية سيُسقط عنه صورة الطاغية التي ارتبطت به، وهو خطأ شائع يقع فيه كثيرون بقراءة شخوص التاريخ بطريقة مسطّحة، وكأنّهم أبطال الأفلام العربية القديمة المنقسمون بين خير مطلق وشر مستطير، متجاهلين حقيقة أن هتلر وموسوليني وستالين وصدام وسواهم كانت لهم جميعاً تحوّلاتهم بين نقائض السلوك البشري.

أمر مهم آخر أشار إليه الكاتب محمد حجيري في نهاية مراجعته المنشورة في موقع "المدن" اللبناني، وهو أن من يقرأ نص حرير كامل سيظنّه كُتِب بلسان والدتها لا لسانها هي، وهي ملاحظة صائبة تجيب عن كثير من علامات الاستفهام التي يثيرها الكتاب، فرغد صدام حسين مولعة بتقمّص أدوار أفراد الأسر المالكة الأوروبية، الأمر الذي يظهر جلياً من خلال صورها التي تنشرها وهي تقلّد بناتها التيجان والأوشحة، أو اتخاذها نسر الجمهورية شعاراً لمراسلاتها، أو استضافتها الفنانين والدبلوماسيين ونشر صورها معهم، مع ظهور سارية تحمل علم العراق في عهد والدها في الخلفية، لكن كل تلك أمور وتصرّفات سطحية هامشية ما كنت لألتفت لها لو كان لرغد أو بناتها فكر سياسي أو مشروع حقيقي يعرضنه على الناس، أو حتى نشاط إنساني يتبنّينه… للأسف مرة أخرى، يبدو أن جُلّ هم أميرات المنفى هو تحويل إرث الجد إلى علامة تجارية لهن أو brand!

يبقى أخيراً أن متابعي الحملة الدعائية الضخمة سيستفسرون عن غياب أصوات باقي أفراد العائلة، بمن في ذلك خالات حرير كامل، وجدّتها ساجدة طلفاح، التي لزمت العزلة والصمت حتى قبل الإطاحة بنظام زوجها لأسباب عدة يعلمها العراقيون جيداً، ولا مجال لذكرها الآن… ترى، هل سبب عزوف الوريثات الأخريات عن الخوض في تفاصيل عهد صدام حسين وحياته الخاصة هو إدراكهن أن من الخير لهنَّ وله أن يُبقين الغطاء محكماً على تلك الحاوية، فزحزحته ولو قليلاً ستجرُّ عليهنَّ من المتاعب ما هنَّ في غنى عنه.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علي شاكر
مهندس معماري وكاتب عراقي نيوزيلندي
مهندس معماري وكاتب عراقي نيوزيلندي، مؤلف كتاب «A Muslim on the Bridge» ورواية «كافيه فيروز» وكتاب «صدام وأنا ومتلازمة ستوكهولم»
تحميل المزيد