تحيا مصر

عدد القراءات
552
عربي بوست
تم النشر: 2019/04/24 الساعة 13:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/04/24 الساعة 13:54 بتوقيت غرينتش
على الكرتونةِ البيضاء، بخطٍّ أسود كُتِبت «تحيا مصر»، نعم، تحيا، تلك التي يديرونها بالشكل الذي يريدونه

على سيارة نقل البضائعِ يقفُ الجنودُ مدججين بالسلاح، ببزاتهم العسكرية المموَّهة، والتي تشبه الواقع الباهت، وتتماشى مع خريطة الوطن المرقَّع، المبيع نصفه، والمؤجر نصفه، ويكفي الشعب منه أن يستظل بالسماء.. وآهٍ لو كانت السماء تؤجَّر بالقطعة، لظلّوا جميعاً معلَّقين في الهواء ولا حق لهم في الأعلى ولا في الأسفل.

تحت السيارة تتكاثف الكتلُ البشرية، الجميع يمدون أيديهم لأعلى، لو قصصنا الصورة واحتفظنا بنصفها السفلي فقط لخُيِّل إليك أنهم يبتهلون؛ أن الجزء الأعلى من الصورة ربما ستشغله الكعبة أو ضريح الحسين أو مقام السيدة زينب، لكن مع اكتمالها ستجد بياداتٍ عسكرية، تحوي أجساماً دقيقة فوقها، يحملون كراتين بيضاء كقلوب الغلابة، يرمونها إليهم كما يكافَأ الكلبُ بقطعةِ لحمٍ بعد قيامِه بدوره في النباح.

الأشكالُ موحَّدة تقريباً، منذ أمدٍ بعيد والوجوه هي الوجوه، الملامح المدفونة في التجاعيد، والعيون المغسولة بدموع الحاجة، والألسنة المنافقة رغماً عنها، إذ تدعو للباشا الكبير في العلن وتدعو عليه في كل سجود. الجلابيب المصرية العتيقة التي تحتفظ بالمظهر الأصلي لأولاد البلد، والمناديل السوداء المعقودة على رؤوس النساء، والعرَق المتصبب من كل شبرٍ في الجسدِ المطحون بين أمثاله من الأجساد المطحونة، والرائحة النفاذة التي تخترق الأنوفَ فتعلَق بها، والألفاظ التي تبين الفارق بوضوحٍ، وتلخص المواطن من الدرجة الثانية في صورةٍ تسد عين الشمس: "والنبي يا باشا"، "يا سعادة البيه"، "وحياة جَنابك".

تسمع متنَ روايةٍ يُتلَى عليك، تشاهدُ فيلماً حياً لا ينقطع عرضُه، وإنما هو مستمر بطول الوطن، أبطاله مجموعة من "الكومبارس"، يؤدون دورَهم بامتياز دون الحاجةِ إلى التمثيل، فهم يعيشون الفيلم في الحقيقة، ولا نشاهد منه إلا مقاطع أفلتت من عيون الرقابة، فلا نراهم إلا تحت الكباري ونسميهم "أرزقية"، أو أمام الجوامع ونسميهم "شحاذين"، أو أمام الجمعيات الخيرية ونسميهم "فقراء"، أو أمام الكاميرات في اللجانِ وتحتهم على شريط الأخبار مكتوبٌ بالبونت العريض: "الشعب ينتخب".

تستطيع رؤية الحرافيش مصطفِّين في أدبٍ جمٍّ، تتوه عيونهم كأنهم يُساقون إلى الموت وهم ينظرون، وهم في الحقيقةِ لم يصطفُّوا إلا رجاءً للحياة، أو للقمةِ العيش بالأحرى، فمقابل الصوتِ -في بلادٍ لا تسمع فيها إلا همساً- يستطيعون قبضَ ماهيَّة يومٍ يسدون فيه رمق عيالِهم، وفي شارعٍ قريبٍ من اللجنةِ تقف السيارة -إياها- توزع عليهم الأرز والزيت ليأكلوا، والسكَّر لأنهم عاشوا كالنمل، ومن المعلوم بالضرورة أنك "تعيش نملة، تاكل سكَّر".

لا مجال للاختلاف هنا ما دام الأمر متعلقاً بالمعدَمين، والذين بالمناسبةِ لا يرقصون ولا يرفصون، هم فقط يؤدون الدورَ المملَى عليهم، يظهرون صورةَ التزاحم، يقومون بوظيفتهم اليومية، كما يتزاحمون في الطرقات والقطارات وعلى نوافذ ملاليم الحكومة وفي طوابير الخبز والتموين، لا يشعرون إلا بالرضا المستفز، بالضيقِ المكتوم، بالصوتِ المشترَى لأننا في كوكب زُحَل. ربما حين دخلوا قال معظمهم: "لا"، لأنها الفرصةُ الوحيدةُ التي يحق لهم فيها الاختيار بغض النظر عن القرار النهائي للسلطة، وراء ستارٍ يحجب عن النظارات السوداء رؤيتهم، فقرروا الانتقامَ على استحياء، وأن تقوم الدولةً بدلاً منهم هذه المرة بدور "المغفَّل".

على الكرتونةِ البيضاء، بخطٍّ أسود كُتِبت "تحيا مصر"، نعم، تحيا، تلك التي يديرونها بالشكل الذي يريدونه، تحيا طابوراً لا نهايةَ له، وعلى رغم كثرة الواقفين فيه، فإن وزنَه صفر، وطوله غير مرئيّ، وقيمته لا تساوي شيئاً في الحسابات الكبرى، وصوته الهادر لا يُسمع ما دام مكتوماً في صدور أصحابِه التي برزت عظامها من الجوع، واعتراضُه -إن اعترض يوماً- لا يخيف الحاكمَ ما دام الحاكمُ يُبقيه معلقاً به، يعطيه الفتات الذي بالكاد يجعله لا يموت، لا لأن الحاكم -معاذ الله- يريد له الحياة؛ وإنما لأن الرئيس لا يكون رئيساً إلا إذا كان هناك مرؤوسون.

تحيا مصر ثلاث مرات، مرةً بالأحمر القاني لون الدماءِ المسفوكة بمخالب النسر الذي بالمنتصف، ومرةً بالأبيض الصافي لون الأكفانِ التي تفضح أكثر مما تستر، ومرةً بالأسود الكالح الذي يلخص وجه الوطن، وعيون الحرافيش، ولون الجبهات المحترقة من تعامُد الشمس عليها، في طوابير أمام اللجان، مكتوب تحتها في شريط الأخبار بالبونت العريض: "مصر تنتخب"، ويقرأها الجميع -عدا كاتبها- "مصر تنتحب".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يوسف الدموكي
كاتب وصحفي مصري
كاتب وصحفي مصري، تخرج في كلية الإعلام، قسم التلفزيون والسينما، يعمل بالصحافة وكتابة المحتوى والسكريبت، نُشر له 3 كتب مطبوعة، وأكثر من 200 مقال.
تحميل المزيد