لعنة الصورة على مواقع التواصل الاجتماعي

عدد القراءات
1,706
عربي بوست
تم النشر: 2019/04/16 الساعة 15:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/04/16 الساعة 15:20 بتوقيت غرينتش
كل شيء أضحى سريعاً بلا قيمة، الشعور الوحيد الطاغي هو القلق والملل، أصبح الناس باردين، منكفئين على أنفسهم

– تخطف الأضواء نور العين فتضحي العيون داكنة بلا روح، كمية الصور والمعلومات المتدفقة.. الناس المهمون الذين لا وزن لهم حقاً في حياتك، المشاهير، الناجحون، الذين ملأوا هذا الفضاء، أولئك الذين يقتاتون من ضوء عينيك… إن كل شيء في هذا.

العصر يدعوك إلى الانتباه لتكون متقبلاً لكل المعلومات من كل الأشكال والألوان.. الجميع هنا يتحدَّث ويريد بشدة أن يُصغَى إليه، ترى في اليوم الواحد آلاف الإعلانات، تتقبل آلاف الإشارات، والإيحاءات بوعي أو من دون وعي.. كلها قابعة في دماغك، أحببت أم كرهت.

– يجب على الإنسان أن يبقى مشدود الأعصاب، منشغلاً في اللاشيء، في دقيقة واحدة يُجبرك هذا الفضاء على الشعور بأكثر من خمسة أنواع من المشاعر التي قد تكون متناقضة في أحيان كثيرة، لا تفصل بينها سوى ثوانٍ، تتعاطف مع المسلمين الذين قُتلوا كما لو أنهم في لعبة إلكترونية، في نيوزيلندا، ترى صورة صديق قديم أبعدتكما الأيام والمواقف، فتشعر بالحسرة، ترى صورة لحاراتك القديمة فيملأ قلبك الشوق، ترى مقطعاً هزلياً فتضحك، تشاهد طفلاً صغيراً فقيراً فتشفق عليه، تشاهد القدس بأيدي الاحتلال فتيأس، كل هذه المشاعر في دقيقة خلف شاشة الحاسوب والهاتف الذكي، كل هذه المشاعر وأنت في مكانك، قد تضع تعبير إعجاب أو تعليقاً أو مشاركة، ولكنك تبقى في مكانك.

 – مشاعر لا نختبرها بوعي وإنما تحدث عندما نكون منشغلين بتحريك إصبعنا ذهاباً وإياباً على مواقع التواصل الاجتماعي، تحدث الأشياء بسرعة فائقة، تجعلنا غير قادرين على حفظها في الذاكرة، لم نعد نستحضر بوعي شعور الحزن.. الفرح.. الشوق.. أو حتى الخوف.. أو بالأحرى لم نعد نملك الوقت الكافي لنشعر بالشكل الطبيعي. فمن المفترض أن يستغرق شعور الإنسان بالحزن مثلاً وقتاً معيناً، ومن ثمّ نستطيع المرور لنختبر شعوراً آخر، وهكذا دواليك… إلا أن الحال ليس كذلك بالنسبة لمواقع التواصل الاجتماعي، فأنت تتنتقل بسرعة كبيرة من شعور إلى آخر، وهذا ما لا يستطيع الدماغ البشري استيعابه، فينتج عن ذلك القلق والتوتر.

وفي هذا السياق أظهرت دراسة قام بها مركز للصحة النفسية الجماعية على طلاب الجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبريطانيا، أن إصابة الطلاب بحالات الاكتئاب والقلق والتوتر تتناسب طردياً مع مدى استخدامهم لوسائل التواصل الاجتماعي.

– للأسف، كل شيء أضحى سريعاً بلا قيمة، الشعور الوحيد الطاغي هو القلق والملل، أصبح الناس باردين، منكفئين على أنفسهم في الحافلات، في القطارات، في الطرقات… شيء ما غريب يحدث في هذا العالم، يسحب دفء الروح من جسده، فيخمد لهب الحياة في القلوب، شيء يجعل الإنسان يدور حول نفسه وصورته أمام الناس، لعنة ما أصابت روح الإنسان فأضحى لا يقوى على الصمت والانعزال عن هذا العالم، لعنة ما ردمت الفطرة تحت رماد القوالب الجاهزة والمعايير المحددة لكل ما هو جميل أو قبيح، إذا ما سألت شابة أو شاباً في مقتبل العمر، أو أنت يا من ساقتك الأقدار لتقرأ كلماتي إذا طلبتُ منك أن تغمض عينيك وطرقت على مسامعك كلمات كالنجاح والجمال والمرأة المثالية والرجل المثالي والسعادة والحب وحتى الحرية… حتما ومن دون أدنى شك ستكون الصور التي لمعت في أدمغتكم عند سماعكم لهذه الكلمات كثيرة الرواج متقاربة، كي لا نقول متطابقة في كثير من الحالات.

– شخصيا أتذكر بداية عهدي في استعمال الفيسبوك، في بدايات اندلاع الثورة السورية، شاهدت فيها فيديو مصوراً لطفل قتل في إحدى حارات ريف دمشق، كانت أحشاؤه بجانبه، كان ما رأيته صادماً، لدرجة أنني قضيتُ أسبوعاً أتقيأ كلما دخل طعام إلى جوفي، إن رؤية طفل مقتول أحشاؤه بجانبه شيء مريع للغاية، إنه شيء مريع وصادم للغاية، كرَّرت الجملة مرتين لأني أحاول أن أسترجع إحساس الألم والصدمة الفطري، الذي من المفترض أن يشعره أي إنسان حين يرى طفلاً صغيراً مقتولاً. وتوالت الأيام وأصبحتُ أرى كلَّ يوم صوراً وفيديوهات. الأطفال الذين قصفوا بالكيماوي في حلب وإدلب، البراميل المتفجرة، ثم مجزرة رابعة، الناس المحروقون، الناس الغارقون في عرض البحر، ذاك الطفل على شاطئ اليونان، أجل ذاك الذي وضعته كصورة بروفايل لمدة أسبوع… والآن بعد كل هذا لم أعد أشعر بالحزن كما كنت ولا بالألم، أصبح الموضوع لا يهز كما كان من قبل، فقد اعتدنا على عدم رد الفعل، أصبحنا نرى كل شيء، ولا نستغرب شيئاً، وحتى إن رددنا على الفعل فيكون بتعليق، أو بتغيير صورة بروفيل، ما الذي يحدث وماذا حدث، هذا ما جعلني أقف وقفة جدية مع نفسي وأنظر إلى مواقع التواصل الاجتماعي من زاوية أخرى، فمن غير المعقول أن نستعمل شيئاً لساعات يومياً ولا تكون له تأثيرات مباشرة وعميقة علينا كأشخاص، في النهاية يجب علينا أن ننبش في أعماقنا على فطرتنا التي شوهتها الصورة الجاهزة، ونستعيد حريتنا وجرأتنا على أن نكون أنفسنا بفخر، ونعيد النظر في علاقتنا بهواتفنا، حتى لا تملكنا أشياء صنعت لنملكها.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أسماء البجاوي
أستاذة و باحثة في اللسانيات
طالبة ماجستير في اللسانيات المطبقة على اللغة الإنجليزية, مهتمة بعلم النفس السلوكي وتأثيره على الأطفال في السنوات الأولى من التعلم. عملتُ في مجال التعليم ولا أزال أزاوله، عملت أيضاً في مجال الترجمة القانونية. وأيضاً كانت لي تجربة إعلامية في راديو محلي في مدينتي. مهتمة جداً بالثورة التونسية، ومشاركة الشباب في صناعة القرار. شاركت في الانتخابات البلدية، وكنتُ عضوةً في المجلس البلدي في مدينتي. الآن أقيم في إسطنبول مع زوجي وأتعلم اللغة التركية.
تحميل المزيد