إحنا سجينا النيل.. ثورة.. من دمنا الفاير.. ثورة.. ما بنتكتم نسكت.. ثورة.. في وش عميل جاير.. ثورة.. حبوبتي كنداكة.. ثورة.. حبوبتي كنداكة.. ثورة. هكذا غنى ثوار السودان في ميادين الكرامة هناك أثناء القيام بثورتهم المجيدة. ثورة السودان ظروفها موضوعية، خاصة بالبلد، وبتراكمات 30 عاماً من حكم خليط بين الإسلاميين والعسكر الذي كان أسوأ تجربة تمر على السودان من حيث حجم الفشل، والتدمير الممنهج، والمعالجات الخاطئة، والفساد المريع، والقمع غير المسبوق.
خرج السودانيون في احتجاجات واسعة بدأت بالتظاهر ضد ارتفاع سعر الخبز، لتتوسع مطالبها بعد ذلك لتشمل مطلب إسقاط نظام عمر البشير الذي يحكم البلاد منذ عام 1989.
إلّا أن التظاهرات، ورغم تأديتها ثمن الاحتجاج غالياً بسقوط عشرات القتلى حسب أرقام منظمة العفو الدولية، فإنها لم تجلب اهتمام العالمين العربي والغربي، ولم تعلن أيّ دولة دعمها للمتظاهرين، فيما كان "القلق" الدولي محتشماً، ولم يتجاوز حدّ الدعوة إلى إجراء تحقيق في أعمال العنف. حتى نجح ثوار السودان قبل بضعة أيام في اقتلاع رأس النظام المتمثل في عمر البشير ووزير دفاعه في أقل من 48 ساعة.
ما يميز ثورة السودان أنها كانت ثورة النفس الطويل على مدار أربعة شهور ضرب الشعب السوداني مثالاً جلياً على إصرار وجلد أبناء هذا الشعب. ثورة النفس الطويل التي شهدت تخاذلاً عربياً وإقليمياً ودولياً غير مسبوق. خلال الثورة السودانية شهد مسارها صعوداً وهبوطاً مرات عديدة ففي مراحل ما احتشد الآلاف في شوارع وميادين الاحتجاجات إلا أنه في أسابيع أخرى تقلص العدد إلى عشرات ما أدى إلى ظهور تحليلات وتيارات وقتها تشير إلى أن شمس الثورة في طريقها إلى الغروب.
إلا أن الاحتشاد والتحشيد في اعتصام قيادة الجيش الأخير خلال الأسبوع الأخير للثورة هو ما حفّز المتظاهرين وبث فيهم روح الثورة مرة أخرى وزاد إيمانهم بأن حراكهم من الممكن أن يفضي إلى تحقيق مطالبهم. الجدير بالذكر أيضاً أن نسائم ثورة الجزائر قد وصلت إلى السودان ونشوة النصر التي حلت على قلوب الجزائريين قد ألقت بظلالها على ثوار السودان.
مع عدم امتثال البشير لمطالب الشارع ووصف المتظاهرين بـ"الخونة والعملاء" تارة والاعتراف بحقهم في التظاهر وبعض مطالبهم تارة أخرى، تيقن المتظاهرون أنه لم يمتثل لمطالبهم عن طريق المظاهرات المتفرقة وإنما لا بد من استمالة الجيش ليكون هو من يحقق مطالبهم بفرضها على البشير وهو ما حصل بالفعل.
ولستة أيام على التوالي استمر الآلاف من المتظاهرين الاعتصام أمام مقر قيادة الجيش في الخرطوم لتحفيز قيادة القوات المسلحة بالتدخل والانصياع لمطالب الشعب.
وما زاد المتظاهرين إصراراً هو إظهار الجيش أنه بجانب الشعب ومطالبهم. لكن وعكس الدعم الذي تلقته ثورات بعض الدول العربية، كان التجاهل هو الطاغي على الصعيد العربي طوال الأربعة أشهر، بل حتى التغطية الإعلامية لما يجري لم تكن بالزخم ذاته الذي اعتادت عليه كبريات القنوات العربية للاحتجاجات.
أكثر من ذلك، أعلنت أربع دول عربية دعمها الصريح للنظام السوداني البائد، ويتعلّق الأمر بقطر ومصر والكويت والبحرين. على مدار السنين المنصرمة حاولت القوى الإقليمية والدولية إيجاد موطئ قدم لها في منطقة البحر الأحمر ولم يكن ليتم ذلك إلا عن طريق خلق علاقات مع النظام السوداني البائد -السودان إحدى أكثر دول المنطقة استقراراً- الذي استفاد من منطق الجغرافيا لضمان استمراره. وأوضح المشهد السياسي باضطلاع البشير بدور حارس الحدود الذي يساهم في منع الهجرة غير الشرعية من دول العمق الإفريقي، وبتوفيره معلومات استخباراتية مهمة للغرب في إطار الحرب على الإرهاب، وباتجاهه مؤخراً نحو بناء علاقات قوية مع روسيا الراغبة في التوسع داخل إفريقيا، وبالمقابل، إن الغرب عموماً يغض الطرف عن القمع الداخلي وسوء الحكم.
الدول الغربية باتت ترى في السودان شريكاً استراتيجياً في منطقة كثيرة النزاعات، بل كان من المتوقع أن يحصل السودان على دعم مالي من الاتحاد الأوروبي نتيجة تعاونه في مجال الهجرة.
كما أن الغرب يرى في السودان وسيطاً لحلّ أزمة مياه النيل بين مصر وإثيوبيا، وكذلك الوسيط الوحيد بين هذه الأخيرة وعدوتها إثيوبيا، خاصة جهوده لمنع اندلاع حرب بينهما وما ستؤدي إليه من زيادة موجات اللاجئين، فضلاً عن تأثيره على الصراع الداخلي في دولة جنوب السودان.
ولعلي أختم مقالي بالقول إن بداية الاحتجاجات السودانية، لم يكن أحد يلتفت لها إلا بأخبار خجولة، "لأسباب كثيرة" وغير مقنعة. والآن بعدما أطاح الشرفاء والشجعان بالبشير وبن عوف.. بدأ البعض يتبجح بدعمه للسودان وثورته الآبية.
للتاريخ السودانيون أسقطوا أعتى وأفسد نظام في القارة الإفريقية دون دعم أو سند من أحد.. دفع البعض أرواحه. المجد للشجعان ولكل من أشعلوا نبراساً في شرقنا..!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.