تريثتُ قليلاً أو كثيراً قبل الكتابة حول الموضوع الذي شغل الرأي العام الفلسطيني مؤخراً وتعلَّق بإنهاء خدمات البروفيسور الفلسطيني الدكتور "سليم الحاج يحيى" من قِبل إدارة مستشفى جامعة النجاح، وأود القول إنني حاولت خلال الفترة الماضية أن ألجم قلمي عن الكتابة، لكني لم أستطِع أكثر من ذلك احتراماً للأمانة العلمية التي حمَّلني الله إياها.
وكما يعلم الجميع فقد تفاعلت أصداء إنهاء خدمات الدكتور سليم بشكل واسع، سواء عبر وسائل الإعلام أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكان لمعظم الناس والنخب كذلك ملاحظات حول الطريقة التي تمت بها إنهاء خدمات الدكتور سليم، وشكل الخطاب الخاص بإنهاء الخدمات الموجَّه بهذا الخصوص.
وبعيداً عن الدخول في تفاصيل من شأنها تهييج الرأي العام أو صب الزيت على النار، فإنه لا بد من الإشارة إلى أن ما حدث مع الدكتور سليم يثبت بما لا يدع مجالاً للشك صحة نظرية "هجرة الأدمغة" من الشرق إلى الغرب. فالدكتور سليم أكد أثناء المقابلة التي أجرتها معه وكالة "معاً" الإخبارية أنه قدَّم تضحيات جساماً في سبيل العمل في مستشفى جامعة النجاح وخدمة أبناء وبنات شعبه، منها على سبيل المثال قيامه بتفضيل عقد مستشفى جامعة النجاح على عقود أخرى أكثر إغراءً في بريطانيا والخليج العربي.
ولعل الطريقة التي تبعت اتخاذ الإجراء المذكور والتشكيك، ولو تلميحاً، من قِبل البعض بقدرات البرفيسور سليم أو عدم مساهمته في تطوير العمل داخل المستشفى تنمّ عن أسلوب أقل ما يقال عنه إنه ينتمي إلى مرحلة العصور القديمة؛ حيث كان الكهنة يوهمون الناس بأنهم واسطة بينهم وبين الآلهة، ما سمح لهم بتفصيل القانون على مقاسهم، وتطبيقه وفقاً لأهوائهم ورغباتهم. ولعل المدة التي عمل فيها الدكتور سليم في المستشفى، والتي زادت عن خمس سنوات كافية للرد على تلك الإشاعة المغرضة، إذا ما علمنا أن المدة المتفق عليها أصلاً بينه وبين إدارة المستشفى كانت أقل من ذلك.
ومن خلال إعمال التفكير المنطقي، يمكن القول إنه لولا الإضافات التي قدمها الدكتور سليم للمستشفى لما تم تمديد مدة العقد. إضافة إلى أن التشكيك، ولو تلميحاً، بقدرات الدكتور ليس في صالح أحد على الإطلاق كونه عمل لمدة خمس سنوات في المستشفى وقام بإجراء عمليات جراحية صعبة، ومعقدة أحياناً، وقد يعود ذلك بالضرر على سُمعة المستشفى.
ولعل ما حدث مع الدكتور سليم حدث قبل ذلك مع كفاءات أخرى فلسطينية وعربية لم تجد ملاذاً آمِناً لتحقيق طموحاتها ونقل خبراتها التي غالباً ما تحطَّمت على صخرة الروتين الإداري الذي أقل ما يقال عنه إنه لا يتفق وأصول المتابعات الإدارية السليمة الواجب مراعاتها في تلك الحالات. وقطعاً لن تكون تلك الحالة الأخيرة حيث سوف تهاجر الأدمغة إلى الغرب الذي يوفر لها العناية والرعاية والأمن الوظيفي، وهو أمر وإن كان إيجابياً من جانب مساهمتهم في البناء الحضاري الإنساني في الغرب، إلا أنه مؤلم من جانب آخر كون أن المنطقة العربية بشكل عام، وفلسطين بشكل خاص، أحوج ما تكون إلى تلك الخبرات والكفاءات من أصحاب العقول من أجل المساهمة في تنمية اقتصادية ونهضة علمية شاملة في المنطقة العربية بالعموم، وفي فلسطين بالخصوص التي هي أحوج ما تكون إلى خبرات أبنائها وبناتها نظراً لخصوصية الحالة الفلسطينية الراهنة.
وظاهرة هجرة الأدمغة تناولتها بعض الإحصائيات والتقارير الصادرة عن المؤسسات الدولية المعنية بالدراسة. وتفيد الإحصائيات ذات العلاقة بأن 50% من الأطباء و23% من المهندسين و15% من العلماء في البلدان العربية يهاجرون إلى الدول المتقدمة. كما تفيد تلك الإحصائيات بأن 54% من الطلبة العرب الدارسين في الغرب لا يعودون إلى بلدانهم الأصلية بعد انتهاء مدة دراستهم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.