تخرجت منذ عشر سنوات، والتحقت بوظيفة خدمة عملاء بإحدى الشركات الكبرى مع مجموعة من صديقاتي.
كنت أفوقهنَّ في الجِدِّ والاجتهاد فيما يخص مهام وظيفتي، بينما كنَّ يفُقنَنِي في مهارات التواصل، وخلق علاقات جيدة مع الإدارة.
وبالتالي كنَّ هنَّ دائماً مَن يحصلن على أي فرصة للترقية.
لم يُثبط هذا من عزيمتي، أو يدفعني للتكاسل، أو إهدار نفسي بكاءً على ما فاتني؛ بل زادني اجتهاداً وإصراراً.
فالتحقتُ بالعديد من الدورات التدريبية، التي من شأنها أن تطور مهاراتي وتزيد كفاءاتي العلمية والتقنية.
ولكن، ظلّ الحال كما هو؛ إذ رأت الإدارة -رغم كل ما بذلت من جهد- أنهن الأفضل.
عندئذ قرَّرت أن أسلك طرقاً جديدة، وأن أطرق أبواباً جديدة.. فتقدَّمت لمنصب أعلى بشركة أخرى تعمل في نفس المجال، وعندما أخبرتُ إحدى صديقاتي قالت لي:
= لن يكون من السهل أن يتم قبولك في منصب قائد فريق، بينما تعملين هنا منذ خمس سنوات ولَم تحرزي أي تقدم مهني.
فأجبتها:
– ولكني أحمل العديد من الشهادات التي تدعم موقفي، وتُثقل خبراتي بصورة أكاديمية عالية المستوى.
= ليتكِ استطعتِ أن تخطي هذه الخطوة مسبقاً، ولكن أظن أن الوقت تأخر كثيراً؛ لذا أنصحك بأن تتمسكي بوظيفتك هنا، فإيجاد فرصة عمل الآن ليس بالأمر الهين، وكذلك أن تدَّخري كلَّ الأموال التي تنفقينها في مثل هذه الدورات لشيء أكثر نفعاً.
كان بداخلي إيمان بأنني أستحق الأفضل، وأنني أستطيع أن أصل لبوابة أحلامي؛ لذا لم أمتثِل لنصيحتها، وذهبت بالفعل لإجراء المقابلة في الشركة الأخرى، ولكني لم أحصل على الفرصة، والغريب أن موظفة الموارد البشرية قالت لي نفس السبب الذي ذكرته صديقتي!
في هذه الأثناء بينما أنا على أعتاب نوبة إحباط شديدة تواصَل معي أحد العاملين بالمركز التعليمي الذي أذهب إليه، وقدَّم لي عرضاً لدورة تدريبية خاصة ببعض برامج السوفت وير، لم تكن لي صلة بهذا المجال، ولا أدري بم قد تفيدني مثل هذه الدورة، ومع ذلك سجَّلت بها كي أشغل وقتي بِشَيْءٍ ما، ولا أدع الفراغ يهاجمني فأقع فريسة في فخ الاكتئاب والحسرة.
وقبل أن أنهي الدورة جمعتني صدفة بأحد موظفي الموارد البشرية، يبحث عن أشخاص يتحدثون لغات أجنبية، ولديهم خلفية عن برامج السوفت وير التي أوشكت على تسلّم شهادتي الأولى بها.
قدمت لدى تلك الشركة.. وتم قبولي
استقلت من عملي، بذلت كل المجهودات التي بذلتها قديماً في ذلك المكان، ولكنها آتت ثمارَها هذه المرة، ولَم تذهب هباءً، فحصلت على أول ترقية لي بعد فترة قصيرة، ثم تلتها ترقية أخرى، اكتسبت خبرات كثيرة جداً، سافرت إلى أكثر من بلد، تمكنت من صنع مسار مهني قوي، وصلت لمنصب أفضل من أفضل شيء كان يمكنني إحرازه في مجال خدمة العملاء، كل ما أنفقته على الدورات التي نصحتني صديقتي بأن أتخلَّى عنها آنذاك أقلّ من راتب شهر واحد لي الآن.
……
صادفت ذكرى ميلادي الرابعة والثلاثين يوم زفاف ابنة خالتي الصغيرة، فذهبت أهنئ وأبارك، وبينما كنت أحيي أقاربي، وأتمنى للعروس حياة سعيدة جاءت خالتي وهنأتني بذكرى مولدي فقالت:
كل سنة وأنتِ طيبة و…
فقاطعتها من شدة الحماس والبهجة المصاحبة لأجواء حفل الزفاف، وقلت لها بمرح:
والعام المقبل أكون مع زوجي.. آمين
فقالت لي بشيء من التهكم:
هل ما زلتِ تنتظرين زوجاً؟! انتبهي لعملك ومستقبلك وارضي بما قُدِّر لكِ.
في عيد ميلادي، العام التالي، كنت مع رجل من أجمل رجال الدنيا، وأطيبهم قلباً، وأكثر رحمة وتفهماً، أظن أنني ما كنت لأجد رجلاً مثله لو كنت تزوجت في سن صغيرة.
……
أتممت الأربعين ربيعاً من عمري ولَم أرزق بطفلٍ.. إيمان ويقين كامن بقلبي كان يخبرني دوماً أنني سوف أصبح أماً مهما تأخَّر الوقت، وكنت أشعر بسعادة غامرة حين يدعو لي أحدهم بالذرية، ولكن لسببٍ ما لم يعد أحد يُسمعني تلك الدعوة أبداً.
وكأن الناس أصابهم اليأس نيابةً عني، ففي أي مناسبة ولادة طفل جديد بالعائلة يتمنون للجميع الذرية، ثم عندما يحين دوري يسمعوني شيئاً مختلفاً، كأن يقولوا لي: "رزقك الله زيارة بيته الحرام قريباً".
حتى الأمل الذي يمكن لدعوة بسيطة أن تخلقه داخلي بخلوا عليّ به!
ذهبت لابنة خالتي أخبرها في تهلُّل أن صديقة بنفس عمري أجرت عملية تلقيح صناعي ونجحت، وأنني أفكر في الذهاب للطبيب الذي ساعدها، سخرت مني، وقالت لي كلمة شديدة القسوة، كان من شأنها أن تجعلني أتخلَّى عن أي رغبة في إنجاب طفل بعدها، إذ قالت لي بجمود شديد: "الأطفال الذين يُنْجَبون في سن متأخرة مُقدَّر لهم أن يصبحوا أيتاماً في سنٍّ صغيرة، لذا فالأفضل لكِ أن تصرفي نظرك عن هذه الفكرة، فالوقت قد تأخَّر بكِ كثيراً".
رغم وقع كلامها على قلبي، وأثره الشديد على نفسي فإنني آثرت تصديق الصوت الذي بداخلي، الذي لم يكفّ يوماً عن إخباري بأنني سوف أصبح أُماً، قمت بإجراء العملية، ورزقني الله بأجمل توأمين في الدنيا، كلما نظرت إليهما ذهب عن قلبي أي شعور بالحزن، وأي ألم عانيته في سنين حرماني منهما، وقد منحني الله بقدومهما صحة ونشاطاً، لا أذكر أنني كنت أتمتع بمثلهما في سن العشرينيات!
…..
هذه القصص الثلاث، لثلاث سيدات أعرفهن شخصياً، وعايشت مع كل واحدة منهن تفاصيل قصتها، بل كنت أسمع بأذني الكلام المؤذي الذي كان يُلقى على مسامعهنَّ بشكل متكرر، دون مراعاة لشعورهنَّ، أو لما قد يصيب قلبهن من حزن ويأس!
لذا كل ما أودّ قوله هنا، أنه لا يوجد أقسى من أن تجعل أحداً يشعر بأن القطار الذي ينتظره فات، ولا سبيل لعودته، لا يوجد أسوأ من أن تسلب الأمل من قلب أحدهم وتُشعره بأنه قد سبق من سبق، ولَم تتبقّ له دعوة تمكنه من حضور الحفل.
ربما نتمكن من الراحة إذا استطعنا أن ندرك أننا لسنا مشاركين في سباق، وأن الجدول الزمني الخاص بحياة كل منا هو شيء خاص جداً تماماً كبصمات الأصابع، لا تتطابق إحداها مع الأخرى، فلكل واحد منا توقيته المحدد والمناسب له، وله هو فقط.
فالتعليم.. العمل.. الزواج.. الإنجاب.. السفر.. أو غيرها.. كلها أمور يختلف توقيتها من شخص لآخر، لذلك فليس من حق أحد أن يضع تصوراً زمنياً لإنجاز الأشياء عند الآخرين، إذا ما استطاعوا اللحاق بها لم يعد من حقهم السعي وراءها، أو حتى التفكير بها ضمن أحلامهم.
ليس من حق أحد أن يقتل الأمل لدى غيره، ويُوهمه بأن عمره قد ذهب سُدى، وعليه فقط انتظار النهاية.
أما عن الحالمين الآملين المؤمنين بقدرتهم على الوصول.. فأقول لهم مهما حاولوا معك أن تتنازل عن أحلامك أو تنساها، فما عليك إلا أن تنساهم، وتفعل كل ما أقنعوك أن أوانه قد فات.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.