الإنحراف الفكري ظاهرة تعبر عن السلوك المشوب بالعدوان والتطرف، بعيداً عن التحضر والتسامح، تستثمر فيه الدوافع والطاقات العدوانية استثماراً صريحاً كالقتل والتكسير والتدمير، ويمكن أن يكون فردياً أو جماعياً أو صادراً عن هيئة منظمة له، ومن مظاهره ظهور الإرهاب المسلح الناتج عن التعصب الفكري، وترويع الآمنين بدعاوى باطلة.
وقد شهد العالم في فترات مختلفة مظاهر وصوراً متعددة للإرهاب، كان مصدراً لكثير من الأزمات والمصائب وما شمله من أوجاع كبيرة ما زالت آثارها خالدة في قلوب من تذوق بؤسها، ولكننا اليوم أمام جريمة تعتبر نموذجاً خطيراً في منظومة متقدمة من الإرهاب الأسود، منظومة توقف العالم أجمع على قدميه من هول الفاجعة، عبر تقنية البث المباشر تنفذ مجزرة لتسقط جثث مكومة غارقة في دمائها، جرحى بالعشرات بعضهم يلفظ أنفاسه الأخيرة، حالة من الصدمة والذهول في يوم المسلمين الأكبر أثناء تأديتهم لصلاة الجمعة في مدينة كرايستشرش.
مع هذه الصورة الإجرامية تأتي تعليقات عبر مواقع التواصل تكشف مشتركين جدداً في هذه المنظومة الإرهابية، وجه مؤيد متعاطف ومساند، ليعتبروه بطلاً، ويتلقى تهنئات على ما قام به في حق أبرياء "ركع سجود لله".
إن منظومة القيم التي خرج منها هذا المتطرف المنحرف المجرم عبارة عن نموذج مكبر للفكر اليميني المتطرف المتصاعد المتناسق مع خط سير أفكار المنظمات الإرهابية المتشددة في العالم، بعيداً عن مناخات التسامح والتعاون الذي يرقى بالحقوق والقيم الإنسانية إلى المستويات التي تهيئ لمجتمع عالمي تحكمهُ قيم العدل والسلام وحقوق الحياة الكريمة الآمنة.
كان يجب على صناع القرار في العالم أن ينتبهوا جيداً أن تغذية العالم بأفكار مشوهة عن المسلمين، بشكل متصاعد مراراً وتكراراً من قبل عدد لا يحصى من المؤسسات والمسؤولين وجهات محددة، ستترجم في نهاية المطاف إلى عمل إجرامي إرهابي قاتل، ومن الحكمة كذلك أن يتذكر الخبراء وقادة الأمر هذا الأمر جيداً في هذه الفترة وهم يتابعون ما بعد نتائج المجزرة الإرهابية بحق الأبرياء.
يقول هذا المجرم: "نفذت هجومي كي أوضح للغزاة أن أرضنا لن تكون أبداً أرضهم" هكذا كتب في بيان أكثر من 70 صفحة نشره قبل تنفيذ مجزرته.
ويواصل قائلاً: "انتقاماً لاستعباد ملايين الأوروبيين الذين أخذهم الغزاة المسلمون من أراضيهم. وانتقاماً لآلاف الأوروبيين الذين فقدوا أرواحهم في هجمات إرهابية عبر أوروبا لأقلل معدلات الهجرة إلى أوروبا عن طريق الترهيب وإبعاد الغزاة أنفسهم".
إن هذا الفكر المنحرف المتطرف المجرم لا يعبر عن حقيقة الواقع أبداً، فالمسلمون هم جزء أصيل من مكونات المجتمع، وهم ليسوا غزاة ولا محتلين كما تقف بعض دول الاستعمار لديكم لاستعمار البلدان العربية وتهجيرها بالكامل، بل وذبح مستقبل أبنائها لعقود متصلة، والوقائع تشهد فيما حدث في العراق والجزائر وفلسطين والكثير مما لا يحصى.
ويبدو أن هذا المجرم المنحرف لم ينتبه أن الإحصائيات المحددة تشير إلى أن عدد المسلمين في نيوزيلندا يشكلون ما لا يزيد نسبتهم عن 2% من سكانها الأصليين، فكيف يمكن أن تعبر هذه النسبة المهاجرة الباحثة عن الأمن والاستقرار عن الخطر والغزو لسكان البلد الأصليين، وكما قال المفكر الفرنسي روجيه جارودي: "لقد أظهر الإسلام شمولية كبرى عن غيره من الأديان في استيعابه لسائر الشعوب ذات الديانات المختلفة، فقد كان أكثر الأديان شمولية في استقباله للناس الذين يؤمنون بالتوحيد وكان في قبوله لأتباع هذه الديانات في داره منفتحاً على ثقافاتهم وحضاراتهم"، كما أردف قائلاً: "تمكن المسلمون في ذلك الوقت من تقبل معظم الحضارات والثقافات الكبرى في الشرق وإفريقيا والغرب وكانت هذه قوة كبيرة وعظيمة له".
إن معرفة الدوافع وراء منظومة الإرهاب الأسود المتقدم ليست أحجية. فالكلمات المحرضة، والأفكار التي يتبناها القاتل والأدوات المستخدمة في المجزرة هي على مرأى من الجميع، وأي تكهنات تبدو زائدة عن الحاجة في مواجهة الأدلة المقدمة.
إن التضامن والوقوف مع الأبرياء الساجدين هو تضامن مع أنفسنا ومستقبلنا وقيمنا، ولا ينبغي أن يتوقف عند الإدانات اللفظية والمشاعر الصادقة فحسب بل يجب أن يترجم لمواقف عملية فاعلة وعبر معالجة قوية وإنصاف المظلومين وأهاليهم وبلدانهم.
إن الاستجابة لرغبات الإرهاب الأسود وأفكاره المجرمة هو انتصار له،
إذا لا بد للمسلمين في أوروبا وأمريكا من استراتيجية لمواجهة وكسر الفكر اليميني المتطرف، وشمولية الإسلام تتيح لهم أن يتصدوا لهذا الفكر المتطرف بكل يسر، وأن يخاطبوا الشعوب الغربية باللغة التي يفهمونها، كما لا بد لقيادات العالم العربي ومفكريه العمل على بناء جسور التواصل مع قادة المجتمعات الأوروبية والأمريكية لإيصال حقيقة الإسلام لهم، ومعالجة كل التطرف والظلم الموجود، كما يقع على عاتق صناع القرار الغربي ومؤسساته من تطوير برامج وقائية لمكافحة هذه التيارات المتطرفة، والعمل على صياغة استراتيجيات توعوية مناهضة للتطرف والجنوح نحو العنف الذي تدعو إليه تلك التيارات، ذلك أن التطرف لا يؤدي إلا إلى زعزعة الاستقرار، وانفراط العقد الاجتماعي في تلك الدول.
القادة، صناع القرار.. المراكز والمؤسسات، المفكرون، والباحثون، حسب قدراتهم، ومهاراتهم، وتخصصاتهم المتعددة، يجب عليهم عدم السكوت إزاء هذه المجزرة الإرهابية السوداء، يجب عدم التواكل أبداً في معالجة آثارها وأحوالها، وإنصاف الأبرياء المظلومين وأهاليهم وبلدانهم ومنع تكرارها أبداً، ولنتذكر أن عدالة الأرض إن تقاعست فستأتي معالجة السماء بأجمل صورها لإنصاف الأبرياء.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.