بعد خطوة إيقاف رواتب "الأساتذة المتعاقدين"، بسبب رفضهم التوقيعَ على ملحق العقد الذي أصدرته وزارة التربية والتعليم، عبر أكاديمياتها الجهوية، قرَّرت تنسيقية الأساتذة الذين فُرض عليهم التعاقد النزول مرة أخرى إلى الشارع للردِّ على تصعيد الوزارة بحقِّ مناضليها، من خلال أشكال احتجاجية جديدة، بإضراب مطوّل مرفق باعتصامات ليلية في مختلف جهات البلاد، الشيء الذي جعل الأمور تتجه نحو منعطف استثنائي في علاقة التنسيقية بالوزارة وبالدولة، وتعيد للشارع حركيته وصخبه مثلما كان عليه الحال من قبل، مع الأساتذة المتدربين ومناضلي الزنزانة 9، والأساتذة المجازين وغيرهم.
نحن بصدد تجربة نضالية جديدة تكتسي ملامح تجارب سبقتها، بحكم ظروف نشأتها وباعتمادها ذات الوسائل التواصلية، والأشكال النضالية، وكذا بسبب الاستعصاء السلطوي الذي تواجه به مطالبها، غير أنها كذلك تحتفظ بسمات تميزها عن غيرها، فهي وإن كانت تحمل مطالب فئوية إلا أن تلك المطالب تصطدم بتوجه من توجهات الدولة الكبرى الحديثة، الذي بذلت مجهودات جبارة من أجل تثبيته في وزارة التعليم، وهو مبدأ التعاقد، ما يجعل التنسيقية تتجاوز نضالها عن حقوق جزئية لتحدي قرار يمكن اعتباره قراراً سيادياً.
كما أن التنسيقية تواجه تخوف عدد من المنتسبين لفئة "الأساتذة المتعاقدين" من الانخراط في نضالاتها، استناداً لما يعتبرونه وضعهم الإداري الهش، غير أنه وفي المقابل ثمة نقاط قوية تخدم تنسيقية الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد، لعل أبرزها كثافة عددهم، فإذا كانت مجموعات من بضع مئات من المتظاهرين كفيلة بزعزعة العاصمة وإقلاق راحتها، فكيف بمن أصبحوا يمثلون نسبة مهمة من نسيج الأساتذة، ويتواجدون بمختلف المؤسسات التعليمية في المغرب، بما فيها تلك المستقرة في قلب العاصمة وباقي المدن الكبرى الأخرى، مما يهدد بشلّ القطاع برمته.
بُعد آخر تستفيد منه التنسيقية حالياً، هو المزاج الشعبي المتضامن معها، مقارنة بتجارب سابقة لعدد من التنسيقيات التعليمية، وإن لم يُفرز حتى الساعة فعلاً قوياً لصالحها، لكنه مع ذلك يُسهم في دعم روايتها ويروّجها بشكل واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، الشيء الذي يعزل السلطة ويوقعها في حرج بالغ.
كذلك فعجز العقل المخزني عن إبداع مقاربة جديدة في التعاطي مع الحركة الاحتجاجية بشكل عام، وحراك التنسيقيات تحديداً يخدم تنسيقية الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد، حيث إن السلوك السلطوي يكاد يكون متطابقاً ومستنسَخا، وهذا يُسهل فَهْم ممارسات السلطة، وتوقُّع خطواتها الآتية، فهي في بداية أي تكتل، افتراضياً كان أو حقيقياً، تلجأ لمحاولة نسفِهِ في مهده، عبر زرع بذور الفتنة في صفوف أعضائه، وقد تنجح في ذلك في حالات كثيرة، فإذا استطاع ذلك التجمع تنظيم صفِّه وتحصينه فالسلطة حينها تتجاهله، وتفرض تعتيماً إعلامياً عليه، ثم إذا تمكّن من فرض نفسه في الساحة، وقوي، واشتدَّ عوده فإنها تُبرِز في وجهه عصاها الغليظة لردعِهِ وتشتيته، وفي الغالب ما تجتاز المجموعاتُ ذاتُ المطالبِ المُحقة هذه المرحلةَ بسهولة، حيث لا يزيدها القمع المخزني إلا مناعة وقوة وتماسكاً داخلياً، ويعطيها إشعاعاً خارجياً، يشير إلى ملفها المطلبي.
بعد ذلك، وبعد أن يفرغ المخزن كلَّ ما في جعبته من أدواته الخشنة، يلجأ إلى تقطيع الوقت، وترك تلك الفئة تكرر أشكالها الاحتجاجية، وتعيش الرتابة في نضالاتها دون أي استجابة من جانبه، مما قد يُحدِث سجالاً داخلياً بين أعضائها حول جدوى ما تصنع، لتنشب الصراعات وتراشقُ الاتهامات حول الانسداد الذي وصلت إليه تجربتهم، وتزيد الخلافات الأيديولوجية والنقابية وغيرها، فتزيد الطين بلة، لتسهم في إضعاف جسدها وإنهاكه.
طبعاً هذا الأمر ليس حتمياً، وتفاديه رهين بمدى قدرة تلك الفئة على حسن إدارة معركتها النضالية، باستغلالها لأوراق الضغط التي تملكها لإخضاع السلطة لملفها المطلبي. هنا يلجأ المخزن إلى المناورة، فتتناسل الوعود والتطمينات من جهته ومن الجهات التابعة له إعلاميا وسياسياً، وحتى نقابياً؛ بغية بلبلة صفوف التنسيقية المناضلة، فإن قاومت عروضه فهو ساعتها سيخضع لمطالبها، غير أنه، ولمكره المعهود، لا بد له أن يُسمّم انتصار التنسيقية بترك بعض الملفات العالقة، أو أن يقوم باستثناء عدد من مناضليها بشكل مقصود، أو انتقائي، من تسوية وضعيتها، ظناً منه أنه بذلك يسترجع هيبته المزعومة مثلما حدث مع الأساتذة المتدربين مؤخراً، وتظل هذه النقطة بالذات نقطةً سوداء في معظم التجارب النضالية، حيث تعجز التنسيقيات عن الدفاع على مناضليها بسبب الاستنزاف والإنهاك الشديد الذي تعرضت له في مسارها النضالي، وكذا بسبب غياب روح التضامن مع المجموع، فبمجرد ما يحصل مناضل التنسيقية على مبتغاه منها، ينفضّ عنها غاضّاً الطرْفَ عن معاناة زملائه المتفاقمة.
في حالة تنسيقية الأساتذة الذين فُرض عليهم التعاقد، نحن أمام مسار نضالي ناجح، استطاع في وقت وجيز أن يتبوأ صدارة الأحداث، ويقلب الطاولة على مَن كان يسابق الزمن بإجراءاته لخلق جيل طيِّع من رجال التعليم، فإذ بهذا الجيل يبصم على حركة احتجاجية مميزة، لا تقل زخماً عن التجارب النضالية التي قادها رجالُ التعليم من قبل.
هذه التنسيقية تمكّنت من اجتياز كل العقبات التي وضعها المخزن لكبحها، بما فيها استخدام آلته القمعية التي فجَّرت غضباً عارماً في صفوف جلّ المتعاقدين، حتى المترددين منهم، ولم تتبق له غير أساليب الكيد، فتغيَّرت لغته الاستعلائية بحقهم، وبدأ يروّج لحلحلة ملفهم، وخلقت الجهات التابعة له زوبعة إعلامية، توهم بانتهاء مشكل الأساتذة المتعاقدين نهائياً، دون أن تقدم ضمانات حقيقية لدعايتها تلك.
المؤكد أن أسلوب المناورة الحالي أسلوب مكشوف، لم يعد يؤتي أكله مع تراكم الوعي النضالي وانفضاح ألاعيب المخزن، الشيء الذي لا يخفى على مناضلي التنسيقية، الذين يدركون أن مطلبهم في الإدماج لا يحتمل القسمة على اثنين، وألَّا سبيل لتحقُّقِه إلا بإجراءات فعلية تُطبَّق على أرض الواقع.
يمكن القول إذاً، ودون مبالغة، إن الكِفَّة راجحةٌ لصالح تنسيقية الأساتذة الذين فُرض عليهم التعاقد، وإن استمرارهم في الإضراب معضلة، لم يجد لها المخزنُ حلاً، بل وحتى تهديداته تلك بتعويض أفواج المتعاقدين الحالية بأفواج أخرى هي تهديداتٌ فارغة، غير قابلة للأجرأة والتنزيل، لذلك فما دامت الكتلة الصلبة من "الأساتذة المتعاقدين" منخرطة بقوة في نضالات التنسيقية، فإن الدولة سترضخ لهم إن لم يكن في اتجاه القطع مع التعاقد بشكل نهائي، ففي اتجاه إدماج أفواج المتعاقدين المناضلة على أقل تقدير.
تبقى اليقظة مطلوبة والحفاظ على وحدة المصير هي أهم ما ينبغي التركيز عليه بالنسبة لكل مناضلي التنسيقية، الذين فُرض عليهم التعاقد ليقطعوا الطريق على السلطة أمام إمكانية التضحية بفئة منهم، فعليهم أن يكونوا في حالة استنفار دائم للدفاع عن جميع أعضاء تنسيقيتهم، كيلا يكرروا أخطاء من سبقهم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.