هكذا تمر الأيام على إنسان محكوم عليه بالإعدام!

عربي بوست
تم النشر: 2019/03/06 الساعة 13:01 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/03/06 الساعة 13:01 بتوقيت غرينتش
 يعود من الزيارة وما زالت بقايا روائحهم جميعاً ممسكة بملابسه وأغراضه

 تتماسك الحروف وتتشابك؛ لتترجم ما يخطر ببالنا أو يجول بفكرنا، لتعبِّر عن أشياء تتمالكنا وتغوص في أعماق أعماقنا، تختصر أنهاراً تجري من مشاعرنا، تصل مرادها أحياناً وتضل وتخطئ في أحايين كثيرة، ترتبط دلالات الكلمات ومعانيها بموطن مقالتها، بمكان وموعد قولها، ومنه تكتسب دلالاتها.

  من أشهر الكلمات وأعْرفها لدى عموم الناس وفي الحياة الطبيعية عامة كلمة (مخصوص)، تعني في عرفنا أن شيئاً ما يخص شخصاً بعينه لا يسمح لأحد بالاقتراب منه إلا بإذنه، ومن أعرف الكلمات المشتقة من هذه الكلمة كلمة (تخصُّص)، وهي تعني أن شخصاً ما تخصص وارتبط بمجال معين أو درس شيئاً محدداً في علم ما.

  لكن في الحياة الموازية، في العالم الافتراضي الذي نقبع فيه منذ سنوات، بين جدران قاسية لا تعرف معنى للكلمات، وفي أهوال وصعاب تغيُّر الأعراف وتبدُّل المعاني، هناك معانٍ وأعراف أخرى لا تمت للإنسانية بصلة ولا يعرفها الناس في دنيا الناس بل ولا الحيوان في دنيا الحيوان!

 في هذه الحياة الموازية وفي هذا العيش الافتراضي تعني هاتان الكلمتان أن أحداً قد حُكم عليه بالإعدام، نعم، هكذا، لا تعني أنه تخصَّص في أمر من أمور الحياة بل تعني أنه هو نفسه خُصص للموت! أصبح مخصوصاً في كل حركاته وسكناته، يعيش حياة مخصوصة ويرتدي زياً مخصوصاً، ينظر إليه من رفقائه قبل سجانيه نظرة مخصوصة، تخصصت معيشته في كل شيء، فارتدى سترة حمراء اللون من يوم أن حُكم عليه، يعزل عن أصدقائه وأحبابه ليعيش منفرداً أنيسه ظلمة وجدران أربعة، ينقطع عما تبقى من مُتع الحياة وضجيجها، يعيش حياة ميت مع أنه ما زال حياً يتنفس!

 يعيش في رحاب الأطياف وقُدرته على استذكارها، أول ما يتراءى أمام ناظرَيه أطياف أُمه وأبيه اللذين عاشا من أجله، من أجل أن يكون يوماً ما سنداً لهما في هرمهما، من أجل أن يكون مصدر فخر وسعادة وسرور لهما أينما كانا، من أجل أن يكون يوماً ما شيئاً في دنيا الناس مذكوراً.

يأنس بأطياف أولاده وقد كان أباً صالحاً لهم على قِصَر ما عاش معهم قبل أن يخطف.

  تأتي هذه الأطياف تسريةً عنه في عزلته، ذرات من نور في وحشة ظلمات يعيش فيها كرهاً، تأتيه لتهبه شعاعاً من أمل قبل أن يفارق!

  يتذكر طيف أصحاب وأصدقاء، عاشوا معاً، ساروا معاً، تسامروا معاً، ضحكوا معاً، بكوا معاً، منهم مَن أفضى إلى ما قدَّم ومنهم مَن بقي على العهد يحيا، أما هو، فيحيا على استحضار الأطياف والذكريات، يتشبث بها؛ لأنه محروم أن يعيش الحقائق، فُكتب عليه أن يحيا رهين الأطياف.

  على موعد لا يقل عن شهر وقد يزيد، يفتح باب زنزانته الانفرادية للزيارة، يقف وسط أهله بزيه الأحمر، ينظر في وجوههم نظرة وداع، طعام وداع، ابتسامة وداع، يعانق أباه.. أمه.. أخته.. أخاه.. زوجته.. أولاده.. عناق وداع، يجري ويلعب مع أولاده.. يمازحهم.. يلاطفهم.. يداعبهم.. يضربهم ويضربونه.. ضرب الممازح لا ضرب المعاقب.. كل هذه لحظات وداع.. تنتهي الزيارة!

  يعاود النظر في عيونهم جميعاً.. يسترجع.. هذا أبوه الذي كان يقسو عليه ليكون رجلاً وقد كان، هذه أُمه التي كانت تحنو عليه وتعطف وتطبطب ليكون مطيعاً لها وقد كان، زوجته، أولاده،  إخوته، أخواته… دقّ جرس الزيارة معلناً انتهاء اللقاء وانتهاء الوداع وانتهاء عالم الحقائق والعودة إلى عالم الأطياف.

  انتهى الوداع، حان وقت الفراق بين القلوب المتشابكة، دموع تتساقط، فالكل لا يدري ربما يكون هذا هو اللقاء الأخير في هذه الحياة.

  أمواج من آهات وآلام مكبوتة صامتة تترجمها نظرات العيون، حب يفور في القلب ويثور في العروق تُنبئ عنه ابتسامة مختلطة بدموع ساخنة تفيض بها العين وتجود، حزن عميق وصمت طويل يخيم على المكان، صوت سجان يفاجئ الجميع، يقطع ما يحدث ولا يهتم، يمسك بذراع (المخصوص) ليعود به حيث كان، إلى حياة الأطياف والعزلة، إلى الزنزانة الانفرادية، يعود..

  يعود وما زالت قُبلات أبيه وأمه، قُبلات زوجته وأولاده، ما زالت مطبوعة على رأسه وجبينه، ما زالت حرارة تلامس الأجساد وعناقها، ما زالت آثار اللهو واللعب مع صغاره موجودة على ملابسه، ما زالت بقايا الطعام في فمه.. طعام سهرت على شطره أمه ليسترجع به أيام طفولته الأولى، سهرت على الشطر الآخر زوجته ليتذكر به أيام لقائهما الأول، أيام النظرة الأولى، أيام العرس والزينة.. يعود وما زالت بقايا الحلوى من صغاره، هي هي الحلوى التي كانوا يسهرون في المساء ينتظرون قدومه حاملاً إياها، يستقبلونه بعشوائية وهياج.. يتقافزون يعبر كل واحد فيهم عن وجوده وحبه، يتنافسون للحصول على أول حضن، على أول ضمة من ذراعَيه، على أول قطعة حلوى، يجلس على ركبتَيه، يضمهم واحداً واحداً، يطوّقهم بذراعه، يقربهم من قلبه، تتناغم نبضاته ونبضاتهم، يعزفون معاً نغمات الحب الرائعة النقية، يمدون أيديهم جميعاً، يعطي كل واحد منهم قطعة الحلوى التي ينتظرها.

  الآن تبدَّل الحال، أصبح هو مَن ينتظر الحلوى!

 يعود وما زالت بقايا روائحهم جميعاً ممسكة بملابسه وأغراضه، رائحة أبيه، رائحة أمه، رائحة زوجته، وروائح صغاره!

  يدس بين ملابسه رسائل مخبَّأة، رسالة أخته الأخرى التي لم تُهَيَّأ ظروفها لتأتيه، رسالة من صديق عمره وتوأم روحه الذي تمنعه قوانين السجن من دخول الزيارة.

  يسرح ويسرح ويسرح مع فيض متداخل من المشاعر والأحاسيس، ما زال سجانه ممسكاً بذراعه يقوده نحو زنزانته، لكنه ليس هنا، هو ما زال هناك، في غرفة الزيارة، حيث كان أحب الناس إلى قلبه، إنه هناك بروحه، إنه لا يشعر ولا يحس بوجوده، إنه سارح مع أطيافه!

 إنه سرحان يفصله عن الوجود؛ لأنه بالنسبة له هو الوجود.

 فجأة يسمع صوت الباب وهو يغلق، يفيق على هذا الصوت الكريه، إنه الصوت الأبغض إلى نفسه، بمجرد انغلاق هذا الباب يتبدل كل شيء؛ النور إلى ظلام، الحب إلى كره، الحنان إلى قسوة، الحرية المؤقتة والسعة إلى أسر وضيق، لقد عاد إلى زنزانته.

  عاد مخصوصاً كما هو مكتوب على باب حجرته، جلس، أخرج رسائله المخبَّأة، بدأ القراءة، عاش معها، عاد إلى الانفصال عن الوجود، نسي الظلمة والوحشة والجدران الأربعة، فكّ أسر روحه ومشاعره، بدأ يقرأ حرفاً حرفاً كلمة كلمة، يسرع أحياناً ويبطئ أحياناً، يعيد ويكرر، يعيد ويكرر، يقف ليضحك، يكمل، يقف ليبكي، يكمل ويكمل ويكمل..

  لا يعرف عدد المرات التي قرأ فيها هذه الرسائل، لكن الذي يدريه أنه يقرأها كل يوم كما لو كان يقرأها أول مرة، كل يوم يكتشف فيها شيئاً جديداً، يحاول أن يثبت صورة كاتب الرسالة في مخيلته، لعله احتفظ بنسخة من هذه الرسالة عنده وهو الآن يقرأها كما أقرأ أنا الآن ويبادلني الضحك والبكاء والحزن والسرور… سأخرج يوماً وأحكي له كيف كنت أقرأ رسائله في محبسي.

  جلبة وأصوات عالية متداخلة، مفاتيح ترتطم ببعضها، همهمات رجال وأطراف حديث متبادلة، احتكاك أقدام ببلاط الغرفة خارج زنزانته، كل هذا قادم نحوه!

  يا إلهي، هل أكمل القراءة..  أم أنها ساعة التنفيذ؟

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
طه الفرجاني
مهندس مدني ومعتقل سياسي مصري
تحميل المزيد