كان حادث اصطدام القطار الذي وقع الأربعاء 27 فبراير/شباط بمحطة القطارات الرئيسية في القاهرة أكثر من مجرد حادث مُروِّع.. لقد كان مأساةً بالإمكان تفاديها.
فمع أنَّ السبب المباشر في الاصطدام والانفجار الناري قد يكون شجاراً وقع بين سائقَي القطار، إلا أنَّ السبب الأساسي هو أنَّ نظام السكك الحديدية المصري بات من مُخلَّفات عصر ما قبل الحداثة.
فوفقاً للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، عانت البلاد من أكثر من 12 ألف حادث قطار بين عامَي 2006 و2016، أي بمعدل 1100 حادث سنوياً.
وأشار الخبراء على مدار سنواتٍ طويلة إلى الضرورة المطلقة لإنفاق الحكومة على المواصلات، بما فيها نظام السكك الحديدية، الذي عانى طويلاً من التهالك ونقص التمويل. وتجاهلت الإدارة الحالية للرئيس عبد الفتاح السيسي تلك الدعوات إلى حد كبير.
ففي عام 2017، وبَّخ السيسي وزير النقل هشام عرفات في نقاشٍ تلفزيوني بعدما أشار الأخير إلى أنَّه يجب تخصيص تمويلات كبيرة لإعادة بناء نظام السكك الحديدية، لاسيما في صعيد مصر. وجادل الرئيس بأنَّ إيداع الحكومة المصرية 10 مليارات جنيه مصري (570 مليون دولار) في البنك وجني 10% فائدة سنوية أفضل من إنفاق المال لتحديث السكك الحديدية المصرية.
في ذلك الوقت، استقبل المصريون تصريحات السيسي بالانتقاد، وهم الذين يعتمد الكثيرون منهم على السكك الحديدية في تنقُّلاتهم اليومية. إذ تنقل شبكة القطارات المصرية البالغ طولها 9570 كم نحو 1.4 مليون راكب يومياً.
وبعد مأساة الأربعاء، لجأ المصريون إلى الإنترنت للسخرية من تصريحات السيسي في 2017 والإلقاء باللائمة عليه في ما حدث.
صحيحٌ أنَّ البنية التحتية للنقل والمواصلات في مصر كانت تتداعى قبل فترة طويلة من تولّي السيسي للسلطة، وصحيحٌ أيضاً أنَّ أي حكومة مصرية ذات موارد هزيلة ستعاني لتحديث السكك الحديدية والطرق والجسور والمشافي، وباقي المجالات التي تحتاج بشدة إلى إعادة البناء والتطوير، في البلاد سريعاً.
لكنَّه صحيحٌ كذلك أنَّ السيسي في سنوات حكمه الخمس أساء إدارة الاقتصاد بصورة كبيرة، مُهدِراً الأموال على مشروعات البنية التحتية المشكوك في قيمتها.
نُفِّذ أحد أكثر مشروعاته طموحاً –مشروع توسعة قناة السويس– على عجل وبتكلفة بلغت أكثر من 8.5 مليار دولار. وتجاهل السيسي الدعوات لإجراء دراسة جدوى، وتجاهل كذلك نصائح الاقتصاديين الدوليين الذين قالوا إنَّ المشروع سيكون هدراً للأموال في ظل ركود الطلب الدولي.
تعهَّد الرئيس المصري آنذاك بأن يحقق مشروع التوسعة عائدات سنوية بأكثر من الضعف، لتصل إلى 13 مليار دولار سنوياً بحلول 2023. لكنَّ آخر البيانات تشير إلى أنَّ المشروع لا يُحقِّق أي مبلغ قريباً من هذا الرقم.
وفي 2018، حقَّقت القناة عائدات بنحو 6 مليارات دولار، وهو مبلغ يمثل زيادة طفيفة فقط عن عام 2013، العام الذي سبق بدء مشروع التوسعة. وعند معادلة العائدات بأخذ التضخم في الاعتبار، وهو الذي بلغ في صيف 2017 معدلاً يصل إلى 30%، يتضح أنَّه لا مكاسب تقريباً.
استثمرت حكومة السيسي كذلك نحو 45 مليار دولار في العاصمة الجديدة، التي لن تفيد أساساً إلا نخب البلاد. وتعرَّض المشروع، الذي سيضم حديقة كبيرة، ومركز تسوق عملاق، وأطول برج في إفريقيا، للانتقادات على نطاقٍ واسع من الخبراء الذين يعتقدون أنَّ مصر لديها احتياجات أكثر إلحاحاً.
وكان الجيش المصري المستفيد الأكبر من رؤية السيسي الاقتصادية؛ إذ يسيطر الجيش، الذي يملك شركة تطوير العاصمة الجديدة، على شركاتٍ في نطاقٍ واسع من الصناعات، بما في ذلك النقل، والتشييد، والسياحة، والهندسة، والمياه المُعبَّأة، والأثاث، إلى جانب صناعاتٍ أخرى.
ومع أنَّ بعض المؤشرات الجزئية للاقتصاد تحسَّنت في عهد السيسي، تُظهِر المؤشرات الاقتصادية الكلية أنَّ الحياة في مصر باتت أصعب على المواطن المصري العادي. إذ جعل تقليصٌ حاد في دعم الكهرباء والوقود، قُدِّم كشرطٍ مسبق من أجل الحصول على قرضٍ من صندوق النقد الدولي، دفع المصريين ثمن الضروريات أمراً صعباً. ومثَّل التضخم مشكلةً كبيرة أيضاً، إذ ارتفعت أسعار السلع الأساسية بصورة كبيرة منذ 2013. وخسر الجنيه المصري في عهد السيسي أكثر من نصف قيمته.
ومنذ انقلاب 2013 الذي قاده السيسي، دعمت السعودية والإمارات مصر بمليارات الدولارات في صورة مِنح. لكن في ظل أسواق النفط المتقلبة والتحديات المستمرة التي تواجهها الرياض بخصوص مشروع رؤية 2030، من المستبعد أن يستمر تدفق الأموال.
والأهم من ذلك ربما أنَّ النظام السياسي في مصر لا يصلح لتحقيق انتعاشٍ اقتصادي. فمؤسسات الدولة عاجزة وفاسدة إلى حد كبير، ويوجد جهاز بيروقراطي متضخم عفا عليه الزمن وهناك ولعٌ لاتخاذ القرارات الغامضة.
وعلاوة على ذلك، تُعَد مصر غارقةً في دكتاتورية عسكرية، ويُرجَّح أن تسمح تعديلاتٌ دستورية ببقاء السيسي رئيساً لمصر حتى 2034 على الأقل. وقضت الحكومة بشكل منهجي على كل أشكال المعارضة السياسية، فسجنت وضايقت القادة والنشطاء السياسيين، وقمعت المعارضين داخل صفوف الجيش والنخبة السياسية الموالية للسيسي. وباتت انتهاكات حقوق الإنسان أسوأ من أي وقتٍ مضى.
وفي الوقت نفسه، فشل السيسي أيضاً في السيطرة على مشكلة الإرهاب بمصر. وهذا أمرٌ مهم، خصوصاً بالنظر إلى حملته الرئاسية في انتخابات 2014 كانت تستند بصورة كبيرة على إعادة فرض النظام والأمن. وحتى يومنا هذا، تستمر معاناة مصر من عددٍ متزايد من الهجمات على الكنائس القبطية والسكان بشكل عام.
ومع استمرار تفاقم الأوضاع السياسية والاجتماعية-الاقتصادية في مصر، على الأرجح سيشتد القمع كذلك بُغية منع المصريين من الثورة مجدداً. إنَّ البلاد تتحرك كقطارٍ مُسرِع باتجاه كارثةٍ كبرى.
– هذا الموضوع مترجم عن شبكة الجزيرة القطرية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.