لم يكن حراك الخامس والعشرين من ديسمبر حراكاً سياسياً بقدر ما كان حراكَ جيلٍ عمري معين يطرح سؤال المستقبل بصورة جادة. وعلى الرغم من كثرة ما طُرح من تحليل سياسي واقتصادي للأزمة الراهنة، فإن التغيير الذي شهدته الأجيال لا يقل أهمية في هذا الحراك.
إن الملاحظ لتركيبة الجماهير التي خرجت يجد أن غالبيتهم من جيل الشباب الذي تتراوح أعمارهم بين 16 سنة و35 سنة في أقصى تقدير. هؤلاء المتظاهرون هم مزيج من الطلاب الخريجين، ولكن سنهم غالباً ما يميزهم. ويشكّل الشباب السوداني نسبة كبيرة في هذا الحراك، ولا ينبغي أن يكون ذلك مفاجئاً، حيث يشير تقرير الأمم المتحدة الأخير للسكان إلى أن هناك حوالي 25 مليون سوداني في الفئة العمرية ما بين 0-24 سنة في بلد يبلغ تعداد سكانه نحو 43 مليون نسمة، ومن المتوقع أن يستمر هذا العدد في الارتفاع خلال السنوات القادمة. ولا شك أن هذه الفئة من الشباب هم عماد الدولة ومستقبلها، وخروجهم بمثابة رسالة مفادها أن الحكومة الحالية لم تعد تمثل آمال هذه الفئة العريضة من الشعب السوداني.
تاريخياً، ارتبطت فئة الشباب بالأزمات السياسية والتحولات التي شهدتها الدول، حيث برز الشباب في الحرب العالمية الثانية كعنصر أساسي خلف رؤية التوسع الجيوبولتيكي لألمانيا النازية. في الصين أيضاً كان الشباب هم قوام التظاهرات التي انتهت بمجزرة التيانمان بميدان السلام وسط بيجين، إذ نظم الطلاب الصينيون احتجاجات واسعة في الصين مطالبين بإصلاحات ديمقراطية. أما في محيط الشرق الأوسط، فقد مثل الشباب قوام ثورات الربيع العربي في مصر وتونس وباقي البلدان العربية.
تشير بعض الدراسات التي بحثت تناولت العلاقة بين الزيادة السكانية في فئة الشباب والتظاهر السياسي إلى أن الشباب أكثر نزعاً إلى الاحتجاج والتظاهر تبعاً لأسباب عديدة من أهمها: غلبة الحماسة والرغبة في التغيير وتجريب الجديد. كما أن التنازل السياسي ليس مطروحاً عند هذه الفئة وهو ما نلاحظه في حدية خطابهم الذي لا يبرز البدائل فإما خيار النصر أو الهزيمة. ومع ذلك، فإن المتظاهرين من الشباب السوداني غالباً ما يكونون مدفوعين بطبيعة الحال بمشاكل فريدة وخاصة بالسودان، حيث تعاني الحكومة من ضعف بنيوي أدى إلى زيادة تشكيك الشباب في قدرتها على توفير مستقبل أفضل لهم. فالمشكلات الاقتصادية التي هزت البلاد استمرت في التفاقم لأكثر من ثلاثة أعوام. أضف إلى ذلك انهيار الدولة على مستوى إدارة بعض السلع والخدمات. حقيقة هذا الضعف هو أن الدولة اختزلت مفهومها في وظائف إدارية محدودة؛ الأمر الذي جعل من الشعب وبالأخص الشباب معتمداً على الدولة في كثير من مناحي الحياة. فالشاب في هذه الفئة العمرية يعتمد على الدولة في توفير السلع الرخيصة والوظيفة وفرص التعليم. وكما تشير الدراسة فإنه كلما زاد اعتماد الشباب على الدولة، زادت احتمالية احتجاجهم عليها حينما تقصر في مسؤوليتها المفترضة تجاههم.
وبشكل أكثر تحديداً، أشار الأكاديميون نازلي شكري، وريتشارد براونجارد، وإدوين وينكلر، إلى أن ارتفاع معدل البطالة وسط الشباب المتعلمين هو من أكبر المهددات السوسيوسياسية لأي نظام حاكم. ويضيف عالم الاجتماع جاك غولدستون أن الزيادة الكبيرة في عدد الشباب المتعلم غالباً ما تسبق الاضطرابات السياسية. وبالمثل، فإن ازدياد معدلات التحضر يزيد من فرص تجمع عدد كبير من نفس الفئة العمرية في المدن. وهذه الأشكال من الاضطرابات الاقتصادية كانت واضحة للعيان في السودان. هذا بالإضافة لطبيعة الدولة ونظام الحكم الذي يلعب دوراً أيضاً في تحفيز الشباب للتغيير السياسي، وكلما كان النظام ديكتاتورياً ومغلقاً سياسياً، زادت رغبة الشباب في الاحتجاج. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأنظمة الديمقراطية أيضاً قد تكون حافزاً للشباب للاحتجاج، فكلما زادت الحريات في الأنظمة الديمقراطية، اتجه الشباب للاحتجاج السياسي.
وعلى الرغم من أن الحراك السوداني قد طالب بإسقاط النظام، فإن الرسالة الضمنية هنا هي إسقاط نظام كبار السن الذين ظلوا متحكمين في إدارة البلاد وشؤونها منذ الاستقلال. ومن هذا، فإن الحلم الذي بدأ يتشكّل الآن بدولة قوامها الشباب ويحكمها إلى حد كبير الشباب صار مطلباً أساسياً ضمنياً للحراك الشعبي في السودان. وحراك السودان هذا ليس معزولاً عن حراك عالمي وإقليمي كبير، بدأ في أوروبا وأمريكا من زمن. ونشهده الآن في إفريقيا مع صعود أبي أحمد في إثيوبيا ويوسف الشاهد في تونس.
لقد جاء الحراك الأخير مفاجئا للنخبة السياسية في البلاد، سواء تلك التي في الحكومة أو تلك التي تنتمي للمعارضة، ورغم التحاق بعض الأحزاب السياسية بالحراك فإن تلك الأحزاب ستواجه بنفس معضلة الحكومة في استيعاب هذا الجيل، وسرعان ما سيبرز الشباب كمهدد لرموز المؤسسة السياسية القديمة، بما في ذلك رموز المعارضة. لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن حراك الخامس والعشرين من كانون الأول/ديسمبر ليس حراكاً من شباب مسيّس أو متوجّه سياسياً، بل هو حراك قام بجذب فئات كبيرة من أولئك الذين كانت بينهم وبين السياسة حجباً وحواجز.
وهذا في رأيي، أكبر منجز من منجزات هذا الحراك الشبابي الذي ينبغي البناء عليه وتطويره حتى تصبح المشاركة السياسية الجماعية جزءاً من الثقافة السودانية، ولتفرز شباباً فاعلاً سياسياً وليس بالضرورة ممتهناً للسياسة.
وأخيراً، ونظراً لأن الشباب السوداني كان بمثابة المحرك الأساسي لحراك الخامس والعشرين من كانون الأول/ديسمبر، فإن هذا الحراك يمثل فرصة تاريخية لبناء مؤسسات الدولة السودانية من جديد، بشكل يتجاوز مفاهيم الدولة القومية والتأسيس السياسي المأزوم للدولة السودانية. كما يمثل الحراك أيضاً تحدياً ضخماً يخوضه الشباب السوداني لاستثمار هذه الروح لتجاوز المؤسسات التاريخية دون الوقوع في أزمات الماضي مثل التسرع في بناء الديمقراطية من الأعلى، أو المضيّ قدماً دون أخذ مشورة الغالبية التقليدية خارج المدن الرئيسية. إن المسؤولية الأكبر لتجنب تلك الأخطاء تقع على عاتق النخبة الشبابية السودانية التي تتمتع بوضع قد يمكّنها من تحقيق نفوذ سياسي لكنها في الوقت ذاته يجب أن تعي تعقيدات المرحلة، وضرورة تعزيز الحراك ودعمه حتى لا تفقد ميزتها الاستراتيجية.
– تم نشر هذا المقال في منتدى فكرة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.