فريتز هابر.. هذا الرجل الألماني كانت قصة حياته عجيبة لم تكن عادية على الإطلاق بل كانت أكثر من عجيبة. كانت تكاد أن تكون معجزة صنعها هذا الرجل.. قصة حياته كانت ثرية إلى الحد الذي يغري بالكتابة عنها، ولكن سرعان ما يتبين أنه السهل الممتنع.. مليئة بالأحداث ثرية بالمواقف، ولكن متناقضة متداخلة، حتى إنه لا يستطيع أحد مهما بلغ من براعة أن يجد مفتاح شخصية هذا الرجل أو مكمن نزوع نفسه إلا بجهد جهيد.
لسنوات طوال حاولت أن أكتب عن هذا الرجل، محللاً ومدققاً، و لكن كان الأمر يستعصى عليّ.. والرجل اللغز يغمض كلما اقتربت منه.
ولد فريتز في أواخر القرن قبل الماضي لعائلة يهودية تقطن إحدى المدن الألمانية وسرعان ما توفيت والدته عقب ولادته بثلاثة أسابيع.. وكان هذا سبباً في سوء علاقة فريتز بوالده طوال حياته إذ ظن الوالد أن المولود هو سبب وفاة الأم.. وبالرغم من أن هذا الموقف أضاف ظلالاً سوداء على الأسرة بأكملها إلا أن فريتز ارتبط بعد ذلك بعلاقة قوية مع أختيه غير الشقيقتين، من السيدة التي تزوجها والده بعد أن ترمل. وعمل بعد ذلك مع والده في تجارة المصبوغات والكيماويات التي كانت تشتهر بها عائلته، إلا أن العلاقة ظلت جافة وخشنة بينهما.
درس فريتز الكيمياء وعمل في مجالها ونبغ إلى أن توج عمله وحياته بحصوله مناصفة على جائزة نوبل للكيمياء في مطلع القرن الماضي، وذلك لاكتشافه الأمونيا بعد أن استطاع توحيد ذرات الهيدروجين المعدل مع النيتروجين، وكان هذا إنجازاً غير مسبوق أو متبوع، إذ أمكن استخدام الأمونيا كسماد زراعي بعد محاولات فاقت المئة عام من أجل تثبيت ذرة النيتروجين في الأسمدة الزراعي.. وكانت النتائج مهولة حتى أنه يقال إن نصف سكان الأرض الحاليين ما كانوا ليجدوا غذاءهم لولا إنجاز هابر.
ويأتينا التناقض مرة أخرى.. الرجل الذي أنقذ البشرية من مجاعة مهلكة يصبح أبا السلاح الكيماوي لتطويره غاز الكلورين الذي استخدمته ألمانيا في ضرب بلجيكا وبقية أوروبا في الحرب العالمية الأولى، ويصاب الجميع بالهلع وفريتز هابر يستكمل منظومة تطوير الغازات السامة إلى أن يصل إلى غاز المسطرد. كيف لمن قدم لنا الغذاء أن يقدم لنا السم، ويرفض الجنود الألمان استعمال الغازات السامة ويرد هابر قائلاً: إن استخدام الغاز السام سيقضي على بضع مئات أو آلاف من الجنود المعادين، لكن سيعجل بإنهاء الحروب، مما سيجعلنا نحافظ على حياة الملايين. منطق عجيب يحمل تناقضاً غريباً، لكنه في النهاية موقف.
وتصاب كارلا بالانهيار، عالمة الكيمياء التي أحبته بجنون وبادلها الحب وتركت علومها لتتفرغ له ولأولادهما بعد أن تزوجا. أخفى عنها عمله في الأسلحة الكيماوية، لكنها علمت بعد الهجوم على بلجيكا، فانهارت وببندقية هارب الخاصة انتحرت، وسالت دماها على صدر ابنها الذي هرع لمساعدتها، فإذا بها تودعه وتودع العالم وتعود متناقضات فريتز هابر.. ويسافر ثاني يوم وفاتها إلى روسيا لمتابعة الهجوم بأسلحته واكتشافاته المميتة، فانتحار زوجته لم يوقفه ثانية للتفكير ولم يمنعه من حرصه على حضوره الشخصي لكل هجوم بأسلحته الفتاكة.
كان فريتز يبحث عن خير البشرية كما أقرت شهادة نوبل له بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، التي شهدت الفظائع جراء اكتشافاته. وقضى فترة ليست بالقليلة يحاول استخراج الذهب من ماء البحر، وفترة أخرى يحاول تصنيع الخبز من الهواء.
قال فريتز هابر: الأمر كله سلام أم حرب.. في أوقات السلام أنا صديق للعالم في أوقات الحرب.. أنا صديق لدولتي.
ترك هابر اليهودية ديانته وديانة عائلته وتحول إلى اللوثرية إحدى طوائف المسيحية التي كانت منتشرة في ألمانيا في حينه.. أيضاً فعلت ذلك كارلا زوجته وتباعاً زوجته الثانية تشارلوت.
عارض هتلر في معاداة السامية وترك الجيش وألمانيا بسبب هذا الخلاف.
وتأثر بضعف عضلة القلب حتى مات على صدر شقيقته وهو في الطريق إلى إسرائيل لشغل منصب مدير معهد الكيمياء بناء على طلب وإلحاح حاييم وايزمان. ونتذكر هنا أنه في مطلع حياته تحول من اليهودية إلى المسيحية ثم عاد ليعمل في أرض ميعاد الشعب اليهودي.
حتى بعد وفاته كان إرثه يحمل تناقضه من بعده، فأبحاثه من أجل اكتشاف مبيد حشري تحت اسم الزيكلون 1 تم تطويرها بعد مماته لتصبح الزيكلون 2.. ويستخدم هتلر هذا الغاز الجديد في معسكرات التعذيب، ليقتل به الآلاف من اليهود، كان منهم كثير من أقارب هابر نفسه.
هذا ما نستطيع أن نراه في حياة فريتز هابر، ويبقى ما نفهمه.
إن المتناقضات في حياة هارب ليست ضد الطبيعة الإنسانية السوية بل هي تجسيد دقيق لها. إن الثابت والظاهر لدينا أن هابر لم يكن مولعاً بالقتل إنما كان شغوفاً بالعلم ونتائجه كان يحمل رسالة.. كان في كل أحواله صانع حدث وصاحب خطوة، وهذا ما جعله يظهر بالتناقضات. والحقيقة إنه كان العنيد المصر.
هذا هو حال العقول التي تفكر والنفوس التي تصبو. إننا جميعاً نحمل هذه التناقضات في حال ما كنا نبحث ونفكر ونتطور.. واعتقادنا، بل وإيماننا بهذه المتناقضات ليس بغريب أو خطأ.
إن فريتز هابر جسد أسمى معاني الحرية عندما أصر على أنه حر فقط فيما يؤمن به ويلزم نفسه به.
عاش فريتز من أجل حريته ومبادئه، فأهدى البشرية غذاءها وقتل وأفسد فيها وكان ما كان منه، ففي النهاية هو رجل فوق العادة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.