يوماً بعد يوم، يصبح النظام القضائي في السعودية أبعدَ ما يكون عن أي مظهر من مظاهر سيادة القانون أو مراعاة للأصول القانونية.
على الرغم من مزاعم الأمير محمد بن سلمان وركائز نظامه الحالي، لم تتراجع السعودية عن كونها تلك المؤسسة الدينية المتشددة. وبدلاً من ذلك، تتخلص المملكة من الأصوات المعتدلة التي قاومت التطرف في المراحل التاريخية المختلفة. حيث جرى اعتقال العديد من النشطاء السعوديين والعلماء والمفكرين الذين سعوا للإصلاح ومعارضة قوى التطرف والسلطة الدينية. والعديد منهم يواجه عقوبة الإعدام.
والدي، سلمان العودة، يبلغ من العمر 61 عاماً، باحث في القانون الإسلامي في السعودية، وإصلاحي يدعو للمزيد من الاحترام لحقوق الإنسان وفقاً للشريعة الإسلامية المستمدة من القرآن. وكان صوته مسموعاً على نطاق كبير، يرجع جزء من ذلك إلى شعبيته كشخصية عامة بأكثر من 14 مليون متابع على تويتر.
في 10 سبتمبر/أيلول 2017، تحدث والدي، بعد أن أزعجته الاضطرابات في المنطقة عندما فرضت السعودية والبحرين والإمارات ومصر حصاراً على دولة قطر، بشكل غير مباشر عن هذا النزاع، وأعرب عن رغبته في حدوث مصالحة. فغرّد على موقع تويتر قائلاً: "اللهم ألّف بين قلوبهم لما فيه خير شعوبهم".
وبعد ساعات من تلك التغريدة، أتى فريق من قوات الأمن السعودية إلى منزلنا في الرياض، وفتشوا المنزل، وصادروا بعض الأجهزة الرقمية واصطحبوا أبي بعيداً.
يبدو أن الحكومة السعودية غضبت واعتبرت هذه التغريدة جريمة. وأخبر المحققون والدي بأن اتخاذه موقفاً محايداً في الأزمة السعودية – القطرية وعدم دعمه للحكومة السعودية جريمة.
ويُحتجز الشيخ في الحبس الانفرادي بسجن ذهبان في جدة. وكان يُقيَّد بالسلاسل لمدة أشهر داخل الزنزانة، محروماً من النوم والمساعدة الطبية، ويجري التحقيق معه بشكل متكرر في النهار والليل. وجرى تجاهل تدهور حالته الصحية –ارتفاع بضغط الدم والكوليسترول في السجن– حتى نُقل إلى المستشفى. وحتى المحاكمة، بعد حوالي عام من اعتقاله، لم يسمح له بمقابلة المحامين.
وفي يوم 4 سبتمبر/أيلول، عُقدت محكمة جنائية متخصصة في الرياض دون تغطية إعلامية للنظر في الاتهامات العديدة الموجهة لوالدي: إثارة الرأي العام، وتحريض الشعب ضد الحاكم، والدعوة لتغيير الحكم، ودعم الثورات العربية بالتركيز على الاحتجاز التعسفي وحرية التعبير، وحيازة كتب محظورة، ووصف الحكومة السعودية بالطغيان. وطالب المدعي العام السعودي بتوقيع عقوبة الإعدام عليه.
لقد استغلت السعودية حالة اللامبالاة الغربية تجاه سياساتها الداخلية، وشنّت حملة قمعية ضد الشخصيات الإصلاحية مثل والدي، تحت غطاء محاربة الفكر الديني المتشدد. والحقيقة أبعد ما تكون عن هذه المزاعم.
يتمتع والدي بحب الشعب السعودي بفضل شرعيته المستمدة من كونه عالماً مسلماً مستقلاً، بعيداً عن العلماء المعينين من الدولة. وكان يستخدم المبادئ الإسلامية لدعم أفكاره وقضاياه، إذ دافع عن الحريات المدنية، والسياسات التشاركية، وفصل السلطات واستقلال القضاء.
وعلى مدار عقدين تقريباً، كان يقود الحملة ضد الإرهاب في السعودية. وكان يدعو لتجديد الخطاب الديني ويدعو إلى الإسلام الوسطي. وأتساءل إن كان قد قُبض عليه بسبب مواقفه الشعبية التقدمية؛ لأنه ومنذ بزوغ نجم الأمير محمد بن سلمان لم يعد يُسمح بالنظر إلى أي شخص آخر على أنه "إصلاحي".
بينما يقبع الإصلاحيون مثل والدي في السجون، تحتضن السعودية المتشددين مثل صالح الفوزان، رجل الدين المتشدد ذي النفوذ الذي ترعاه الدولة وعضو هيئة كبار العلماء. في عام 2013، استنكر الفوزان قيادة النساء للسيارات في المستقبل وزعم أن الشيعة وغيرهم من المسلمين الذين لا يتبعون الأفكار الوهابية كفار، وأن أي شخص لا يتفق مع هذا التفسير فهو كافر أيضاً. كما أعلن أيضاً تحريمه لمطاعم البوفيه المفتوح؛ لأنها أقرب إلى المقامرة، وهي حرام في الإسلام.
وفي أغسطس/آب، أتى مقعد الفوزان بين الملك سلمان بن عبد العزيز والأمير محمد في الديوان الملكي للإشارة لسلطته ومكانته. وقبلها بعدة أشهر، في اجتماع، قال وليّ العهد لصالح الفوزان، "أنت بمثابة والدي". وفي سبتمبر/أيلول، أصدر الفوزان فتوى تبيح للدولة قتل المعارضين السياسيين الذين يشجعون على الفتنة ضد الحاكم. وبعدها بشهر، قُتل صديقي جمال خاشقجي.
وفي هذه الأجواء التي تسودها ثقافة الخوف، يبدو الأمل في العدالة ضعيف للغاية؛ حيث أصبح النظام القضائي في السعودية أبعد ما يكون عن أي مظهر من مظاهر سيادة القانون أو مراعاة للأصول القانونية.
حتى إن بعض القضاة من المحكمة الجنائية المتخصصة، التي تحاكم والدي، اُعتقلوا بعد رفضهم توقيع العقوبات القاسية التي طالب بها المدعي العام في قضايا معينة. وأخبرني أحد القضاة بأن القضاة الذين جرى تعيينهم مؤخراً في المحكمة الجنائية المتخصصة يعيشون في خوف.
ومع ذلك، لا يزال بعض القضاة في السعودية لم يخضعوا للسيطرة الكاملة التي تسعى إليها الأسرة المالكة. في عام 2013، وقع حوالي 200 قاضٍ على عريضة عامة تطالب بإصلاحات قانونية وقضائية حقيقية، وأدانت "حملة القمع الباطشة للأصوات الحقيقية والوطنية". أرادوا استقلال القضاء.
تعرض هؤلاء القضاة للترهيب، وتمت إحالة بعضهم للتحقيق من قِبل وزارة العدل السعودية. وقد وعد محمد العيسى، وزير العدل في ذلك الوقت، بـ "حملة تصحيح" تطهر القضاء من هؤلاء "القضاة الفاسدين". وتم فصل اثنين من القضاة بينما استأنف بقيتهم أعمالهم في هدوء.
في 3 فبراير/شباط، أجّلت الحكومة السعودية محاكمة والدي للمرة الثالثة دون توضيح مع استمرار حبسه. وتعرضت عائلتي لمضايقات متزايدة منذ اعتقاله؛ تم منع 17 فرداً من العائلة من السفر، بمن فيهم الأطفال، تم تفتيش منزلنا ومكتبتي الشخصية دون إذن قضائي، وتم اعتقال عمي بعد التدوين عن الواقعة، وتم تجميد أرصدتي دون مبرر.
وكشف مقتل جمال خاشقجي عن زيف أسطورة وليّ العهد الإصلاحي الذي يدير السعودية. ولكن العالم بحاجة لأن يرفع صوته لدعم السعوديين الذين يقاتلون حقاً من أجل الإصلاح – أشخاص مثل سلمان العودة، والدي، والذي طالب المدعي العام السعودي بإعدامه.
هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The New York Times الأمريكية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.