الأبيض للتعذيب والأزرق للحرمان والأحمر للإعدام.. حينما يجعلك السجن تكره ألوانك المفضلة!

عربي بوست
تم النشر: 2019/02/12 الساعة 16:32 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/02/20 الساعة 14:31 بتوقيت غرينتش
تتبدل الأشياء وتتغير بمرور الأزمان وفوات السنين والأيام كألواني المفضلة!

تتبدل الأشياء وتتغير بمرور الأزمان وفوات السنين والأيام، تجد أشياء ذات مدلول ومعنى تصبح بلا قيمة وأشياء كانت لا تعني وليس من المفترض أن تعني تصبح هي المعنى والمدلول، وأشياء أخرى ينقلب معناها من أقصى إلى أقصى.

عاش يعشق من الألوان ثلاثة، ترسم ماضيه وحاضره ومستقبله، تخط بتباينها كل معاني حياته، تنسق بدقتها مشاعره وأفكاره وخواطره، ترتب طرقات مشيه وسعيه وراحته وعمله، تضيء أمام ناظريه دروب الحياة، من شقاوتها لسعدها، من حزنها لفرحها، من مرها لحلوها..

عاش يعشق الأبيض.. يحمل معنى النقاء والصفاء والسمو، يدل على قلب يحوي بين طياته جل مشاعر الطيبة والوفاء والإخلاص، يرسم صورة محبوبته معلقة ذراعها بذراعه يوم عرسهما لتبدأ حياة مليئة بكل معاني الحب والعشق والهيام، يسيران معاً، يعيشان معاً، يكبران معاً، يرتديان الأبيض ثانية وسط أفواج وجماعات تهفو قلوبها وهي تحث المسير نحو البلد المقدس أحياء في رحاب بيت الله الحرام تحت ظلال كعبته المشرفة، تصدع حناجرها ملبية مبتهلة إلى الله بالدعاء، والخوف، والرجاء.. قد يودع بهذا اللون عزيزاً غادر دنيانا، فارق حياتنا، مل صحبتنا، واختار جوار رب عدل لا يظلم..

عاش يعشق الأزرق.. يعبر عن إنسان يملك من ألوان الشياكة والأناقة والذوق الرفيع ما يملك، يدل على دقة في الحركات والسكنات والاختيار.

يذكره بلون فستان أهداه لزوجته في عيد ميلادها منذ زمن، يذكره بلون المياه الزاهي حيث يداعب زوجته في شهر العسل، يطوف به بين ذكريات وذكريات، كثيرها سرور وسعادة والحزن شعور عابر!

عاش عاشقاً للأحمر.. لون الحب الأعظم️ وسفيره الأوحد، ترقص على أطيافه قلوب المحبين وتغني ولو كانت في غفلة وموات، يقطع مسافات طوالاً بين قلب حبيب وحبيبته أكانت زوجة أو خطيبة، يحوي بدرجاته وتدرجاته كل المشاعر المفعمة بالهيام، يطفو من بين الألوان يترجم نبضات قلوبنا إلى واقع ملموس، كان يرتديه تعبيراً عن حبه لإنسانة اختارها زوجة ليسلكا دروب الحياة معاً يتعكز كل منهما على الآخر دائرين في فلك السعادة بعيدين عن كل حزن وشقاء.

عاش بهذه الألوان الثلاثة من بين الألوان كلها لأنها في العالم الطبيعي تدل على ما يحمل من مشاعر وتزيد، في عالم الأحياء، في عالم تسير فيه الحياة دون أن يتحكم فيها مرضى ظالمون، في عالم كل شيء فيه في مكانه حيث يعشق الأحبة، ويفرح التعساء، ولا يقتل الأحرار أو يظلمون..

لم يدر بخلده يوماً أنه سيؤخذ قسراً للعيش مع هذه الألوان ذاتها لكن في عالم آخر، عالم كان حقه أن يكون افتراضياً لا وجود له في الواقع، عالم عاش فيه إلى الآن من العمر خمساً أو يزيد، لا يعرف هذا العالم إلا من ذاقه وقبع فيه سنين من عمره، في هذا العالم تعبر الألوان عن معان أخرى.. مشاعر مختلفة.. وأحاسيس قاسية، لهذه الألوان الثلاثة تحديداً خصوصية ليست لغيرها من الألوان.. لأنها الألوان الأساسية بل الوحيدة في هذا العالم الافتراضي (سابقاً)، في العالم العالق بين عالم الأحياء وعالم الأموات، في عالم لا يوجد تفسير منطقي لوجوده في واقعنا، فيه هذه الألوان لا غيرها، ليست نتيجة خلط ولا إضافات.

الأبيض أصبح يعبر عن إنسان يعيش سنين من عمره وسط وحشية وقسوة وظلمات، يميزه أنه مكتوب على سترته من الخلف "تحقيق" في طور البحث عن أنه أذنب في حق الفاسدين أم لا، لا يعرف الراحة إلا لحظات يغفل عنه فيها حراسه وسجانيه، يقبع بين جدران أربعة تكون صندوقاً قاسياً يطلق عليه الزنزانة، يبدل بقسوته كل مشاعر الحياة إلى أضدادها.

الأبيض أصبح معناه إنسان محروم من شريكة حياته وحبه الأوحد، محروم من أولاده ومن العيش وسط أهله وبيته، محروم أن يمارس ولو جزءاً بسيطاً من حقه في الحياة، مكتوب عليه أن يرى أحبابه بأمر  سجانه إذا رضي وإن غضب فلا، لا يرتدي إلا ما يختار السجان، لا يرى الشمس إلا بإذنه وقد لا يراها طوال عيشه في هذا العالم.. إذا أخطأ حرم مما تبقى من الجزء اليسير من ملذات الحياة! ينتقل إلى الحبس الانفرادي الذي لا يتحمل الإنسان ولا حتى الحيوان العيش فيه.

الأزرق.. أصبح يدل على إنسان حكم عليه أن يقضي سنين ليست باليسيرة من عمره في ضيق وقسوة أشد، يرى أهله على فترات أبعد وفي أوقات أضيق وأقل، قد يفارق أحبابه الحياة ولا يعلم وإن علم لا يستطيع أن يحضر أو يودع، يكبر أولاده بعيداً عن أحضانه محرومين من صحبته وحنانه، تغير ما كتب على سترته من "تحقيق" إلى "نزيل" شبه دائم في عالم الحزن والمآسي، يعيش ويحيا على ما تبقى في خاطره من ذكريات، قد يرى من أحب ثانية أو يموت كمداً منتظراً لقاءهم عند مالك عدل رحيم.

الأحمر.. بعدما كان يعبر عن حبيب يهدي محبوبته تعبيراً عن عشقه وهيامه، بعدما كان ينتظر ظهوره ليقول أنا هنا.. حباً.. سعادة.. فرحاً.. مشاعر.. حياة.. أصبح يعبر عن إنسان يحيا ليحصي أياماً متبقية من حياته قبل أن يطوق رقبته حبل مشنقة لا تفرق بين الصاعدين عليها ظالماً أو مظلوماً.

يعبر عن إنسان يعيش بين الأحياء في عداد الأموات والمفارقين، إنسان يراه أحبته لإلقاء نظرات أخيرة على محبوب قد يفارقهم بين عشية وضحاها ولا يرى ثانية في حياتنا، إنسان فارق مع أنه ما زال قابعاً بيننا، إنسان ارتدى الأحمر لا ليحب ويحيا وإنما ليفارق الحياة.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
طه الفرجاني
مهندس مدني ومعتقل سياسي مصري
تحميل المزيد