من منا لم يحتفل بتلك اللحظة التي أعلن فيها عن تنحي مبارك؟ لقد كانت علامة فارقة في حياة المصريين ومعهم العرب في أكثر من مدينة، وصحيح أننا بالغنا في الاحتفاء بلحظة اكتشفنا لاحقاً أنها لم تكن سوى مناورة جديدة للمؤسسة العسكرية للالتفاف على الثورة، لكن كان من الصعب اكتشاف هذه الخديعة يوم أعلن عنها.
كنت طالباً في الصف الثالث الثانوي_ السنة الدراسية الأخيرة_عندما اندلعت ثورات الربيع العربي، وكانت ثورة مصر الحدث الأبرز الذي فرض نفسه على وسائل الإعلام، وعلى الرغم من محاولاتي المتكررة للتركيز على مذاكرة الدروس، كنت أجدني متفلتاً من المذاكرة واقفاً أمام شاشة التلفاز، أتابع اللحظات أولاً بأول.
اليوم هو جمعة التحدي، أو الزحف كما سميت لاحقاً. شاهدت حشود المتظاهرين في القاهرة وميادين أخرى وهي تؤمن بعد دعاء مؤثر للشيخ محمد جبريل، ثم تهتف عقب الصلاة بإسقاط النظام، ككل جمعة. بعد عصر الجمعة أبدأ مذاكرة نصوص مادة اللغة العربية كالمعتاد، كان النص الشعري ينتمي للقصيدة العمودية المنفلتة من قيود الشعر التقليدي.
لنكن أصدقاء.. إن صوتاً وراء الدماء، تقول العراقية نازك الملائكة.. هتافات ثورية أسمعها عبر التلفاز تملأ ميدان التحرير في القاهرة وساحة مسجد القائد إبراهيم في الإسكندرية.. واصلت التجول وقراءة القصيدة متجولاً في الصالة الخارجية لمنزلنا الريفي جنوبي تعز، وبين كل بيتين أو ثلاثة أعود للوقوف أمام الشاشة.. إن صوتاً وراء جميع العروق.. يجمع الإخوة النافرين.. ذلك الصوت صوت الإخاء.
بين قصيدة نازك، وبين الشاشة تختلج ضربات الفؤاد، ويتصاعد إيقاع الثورة؛ حشود غفيرة تعلي الهتاف، وقصيدة ذات نص متمرد وبليغ. كان لابد من الاختيار بين استمرار المذاكرة أو متابعة المشهد الثوري، لكن خبراً عاجلاً رجّح الكفة بين الخيارين.
يقول الخبر، إن رئاسة الجمهورية ستصدر بياناً هاماً بعد قليل. ما هو هذا البيان؟ بقيت في حالة ترقب للبيان، بينما توالت الأخبار العاجلة تباعاً: آلاف المتظاهرين يزحفون من ساحة القائد إبراهيم، باتجاه قصر رأس التين الرئاسي في الإسكندرية. شعرت بقشعريرة وتخيلت نفسي أزحف معهم.. يالهذا المشهد المهيب، لشعب يزحف نحو قصر طاغية!
تصاعد المسار الثوري كان بديهياً، خاصة وأن الجميع انتظر في اليوم السابق تنحي مبارك، لكنه خذلهم بخطاب مغاير، تعهد فيه بالإصلاح، وخذلهم الجيش أيضاً، عندما دعاهم للعودة إلى المنازل، إذن فلم الانتظار والترقب لهذا البيان الهام؟
صليت المغرب، ولا يزال البيان الهام المرتقب يتصدر الشاشات كخبر عاجل. طول الترقب سبب لي توتراً، فقررت النزول إلى السوق، لمتابعة الخبر رفقة الأصدقاء داخل محل تجاري، وبين المسافة من منزلي إلى السوق، تلا عمر سليمان بيان التنحي. شاهدته مراراً، حتى أنني حفظته، واختلط الهرج بين أصوات المتظاهرين في ميدان التحرير، وأصوات المواطنين الذين تحلقوا حول شاشة التلفاز والنشوة ترتسم في وجوههم.
سقط مبارك، الطاغية المتجبر، بعد أن أسند المهمة للمجلس العسكري، الذي تبيّن أنه كان نسخة معدلة من النظام القديم. لم نكن نعرف هذا الكلام في حينه.. دعونا نحتفل الآن، ونعيش نشوة اللحظة فحسب، إنها لحظة لن تتكرر، ولو تكررت لن نبتهج ربما لأننا سنكون أكثر وعياً، وأكثر مراساً على خدع الطغاة وأحابيلهم.
واصلنا التحديق في الشاشة، واكتظ الدكان بالوجوه. شاهدنا الاحتفالات في مصر واليمن والأردن والمغرب وأماكن أخرى، فوجدنا أنفسنا جمعاً لابأس به يجب عليه أن يحتفل أيضاً، ويترجم تعابير الوجوه إلى موكب شعبي، تحفه رقصات رجولية على وقع طبول الهزيمة التي مني بها طاغية عربي.
أُغلق الدكان، وبدأنا نحشد من كانوا في المكان، ثم انطلق بنا الموكب من السوق، متوغلاً في الوادي المؤدي إلى القرية، والتهبت حناجرنا بهتافات ثورية يتردد صداها كلما ضاق الوادي، وتتشتت كلما اتسع، ومع كل خطوة نخطوها كان العدد يتزايد بالتحاق المزيد من المحتفين، الذين خرجوا من منازلهم بمجرد سماع أصوات الطبول.
لم نكن وحدنا نحتفل بالخدعة، الملايين فعلوا ذلك في مصر. نحن خدعنا مثلهم، وشاطرناهم الفرحة، وقبل ذلك فرحنا لأن سجل مبارك أسود فيما يخص القضية الفلسطينية، وقضايا أخرى كغزو العراق.
هذا نصر ثقيل، يجب أن أكتب عنه ولو بضعة سطور. هكذا خاطبت نفسي بعد انتهاء القرية من احتفالها في العاشرة مساء، ثم شرعت في كتابة مذكرة ممزوجة بالحماس والتفاؤل على ورقة من دفتري المدرسي، وختمتها بتساؤل حول من سيسقط أيضاً بعد مبارك وبن علي.
كنت أظن أن السقوط مسألة تنحصر في الزعماء، ولم أتصوّر أن الثورات سيطالها السقوط والالتفاف على أهدافها، وأن شخصيات خدعنا بها، ستسقط هي أيضاً، لقد كان سقوط مبارك خدعة هندسها الجيش المصري، لكن السقوط الحقيقي كان سقوط الأقنعة وبيان الوجوه على حقيقتها، وذلك من أبرز ما أنجزته ثورة مصر ومعها ثورات الربيع العربي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.