خلال الحرب يبدو أننا نوطد علاقتنا بالوجع المتراكم مع كل ليلة نقضيها في مواعيد الحروب، نضع قلوبنا على صدورنا ونتساءل، إذا ما أفقنا صباح الغد نكون أحياء أم لا، وإذا كان الحظ المتعرج صادفنا هذا الصباح فإننا سنصحو وما زال القلق ينهشُ قفصنا الصدري، بأن نصادف خبراً مفاده رحيل شخص قريب وربما صديق. فيدكّ الحزن قلوبنا ونمضي في سرب التواشيح الموجعة ويبقى رمز الضريح مكاناً للعودة لتلك المعاناة بفقدانهم.
فنحن منذ خمس سنوات نعيش حالة حرب، أصبحنا بعد كل هذا العمر نستطيع أن نميز أنواع الرصاص وتاريخ صنع الكلاشنكوف وطريقة صنع قنابل يدوية وإبطال مفعولها والتعرف على أنواع الطائرات الحربية من صوتها المتدفق في كل حين، ونعرف وزن الصاروخ الذي سقط بغارة اليوم على المدينة ومدى تأثيره، نتحسس رائحة البارود خلف الدبابات والمدافع، لكننا لم نستطع جمع أشلاء أحبائنا من خطوط التماس والنيران فمازلنا نخسر أصدقاءنا، وفي غالب المواعيد لا نستطيع حتى المشي خلف جنازاتهم، هذا إن كانوا محظوظين وتركت لهم الحرب أشلاء ليتم دفنها..
وبعد مضي كل تلك الجنازات يظل الراحلون كالندوب في أجسادنا، كلما تحركنا تذكرناهم وافتقدناهم حتى أصبح لدينا مقابر إلكترونية، نزور لحظاتهم التي تشاركناها معاً.
مارك، لا أعرف ماذا كان يدور في خياله حينما أنشأ موقع فيسبوك وسعى لتطويره حتى أصبح بهذا التطور، ونسي شيئاً جللاً، ربما لم يفكر بهِ، وأقنع نفسي أنه لم يخض حرباً مثلما نخوضها في اليمن، وأصبح الأصدقاء موزعين بمناطق متباعدة وقد نعلم عن موتهم من فيسبوك، لذا بات فيسبوك موقعاً لمعرفة الراحلين وبسرعه أيضاً. وما يزيد ذلك الوجع هو توطينه، والوصول له بات سهلاً وبكل وقت، ومتاح بهِ سرد ذكريات ومواقف يصعب على خيالنا تجميعها بعدما مَنَّ الله علينا بشيء اسمه النسيان.
كل أصدقائي الذين رحلوا واستشهدوا ما زالت حساباتهم في فيسبوك متاحة، فحينما تحين سيرة الوجع اليومية أتنقل في حساب الصحفي الراحل محمد عبدة العبسي وأتجول بين كل هواياته وأشيائه التي كنا نتحدث عنها، أودعه بأمل لقاء قريب، فثمة موعد آخر لي مع صديقي الراحل خالد الجعفري لكي نخطط كيف سنقضي عطلة الأسبوع معاً ومعاتباً روحه لماذا لم يحضر حفل زفافي مؤخراً، يودعني خالد بدعوى انشغاله، فأنتقل من صفحته على فيسبوك إلى صفحة صديقي الراحل ياسر القادري، وقبل أن أتحدث يقول ياسر (حضرت حفل زفاف هل تتذكر؟)، أخبره أنني أتذكر تلك اللحظات لكنه ترجل عن صهوة الحياة وغادرنا سريعاً نحو الموت مثلما غادر محمد عبدة العبسي وخالد الجعفري وأصدقائي الآخرون.. أصبحت أتنقل في فيسبوك كمقبرة أزور بها أصدقائي الراحلين، ألقي الفاتحة على أرواحهم لألتقيهم في اليوم الثاني، لكننا نكون وحيدين بلا أصدقاء غيرنا..
أصبحت المقابر الإلكترونية مزاراً يومياً لي وهذا لا يقلقني، فسيكون لي ذات يوم مقبرة إلكترونية، وستزورون حسابي الشخصي وليس عليكم حمل الورد وباقات الرياحين مثلما نفعل في المقابر الأرضية، ستكتفون بإلقاء سورة الفاتحة وترحلون بهدوء.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.