في يومي الأول في سجن الرملة انتزعوا الدبابيس التي أُثبِت بها حجابي، وبعد رجوعي من محكمتي الأولى أخبروني أن معاصم يدي ممنوعة في السجن، بحجة أنها زيادةٌ عن اللباس، أخذتها منّي السجانة وألقتها في سلة القمامة القريبة، استطعت أن أتجاوز أمر المعاصم؛ إذ إن أكمام جلبابي كانت ضيقة، مما يغنيني عن المعاصم.
وذات ليلة، بينما كنت عائدة لزنزانتي، بعد يومٍ طويلٍ في البوسطة، ولم أكد أغمض أجفاني، حتى تم استدعائي للتحقيق، جهَّزت نفسي وكنت قد غسلت جواربي، فلبستها مبتلة، ولما قيَّدت السجانة قدمي قالت لي عند عودتك ستخلعين جواربك!!
عُدت من التحقيق بعد الواحدة ليلاً والسجانة تنتظرني، أخذت جواربي ورمتها في سلة القمامة.
مرَّت عشرة أيام على الاعتقال، وأنا في زنزانتي معزولة عن الجميع، بين صلاتي وقرآني ودعائي ومناجاتي وبكائي لله عز وجل بأن يرفع هذه المحنة.
كنت مثالاً للهدوء والاتزان في السجن، بينما كان يعج قسم العزل بالصراخ والشتائم والجنون.
خرجت لمحكمتي الخامسة، وعندما عدت للسجن ناداني مسؤول السجن، وأخبرني: من اليوم فصاعداً يُمنع عليكِ ارتداء الحجاب والجلباب داخل القسم!!
لم أعرف حينها بأي لغةٍ أخاطبه لأُفهمه أن ذلك غير معقولٍ أبداً، فلم تسعفني أي كلمة، وأنا القوية دوماً، أنا التي لا أبكي أمام سجاني حتى لا يشمت بي، وحتى لا ينتشي بقوته!
مع ذلك كله لم أتمالك دموعي ذلك اليوم، بكيت أمامه بحرقة، لا يمكنني أن أفعل ذلك، ولن تفعل أنت.
أوصلني إلى باب القسم، وأمر السجانة أن تنزع حجابي فنزعته.
وطلب مني أن أخلع جلبابي، وإلا خلعوه بالقوة.
فاضطررت لخلعه أمامهما
أدخلوني زنزانتي أجر أذيال قهري، فانفجرت باكيةً لا ألوي على شيء، حاولتُ ضبط دموعي، والله كانت تسيل رغماً عني!
أنا التي بلغتُ الأربعين ولم أخلع حجابي مذ كنت في السابعة!
ولم يرني أي أجنبي دون جلبابي مذ كنت في الخامسة عشرة!
واليوم يراني هؤلاء المُحتلين بلا حجاب أو جلباب!
بكيت كما لم أبكِ من قبل، صرخت، كبّرت، ناديتُ المعتصم وصلاح الدين، قلت وارباه، واغوثاه، وا إسلاماه وامعتصماه!!
لم تجبني سوى جدران الزنزانة بصدى الصوت.
بكيت ما يقارب الساعتين، صليتُ يومها بلا حجاب أو جلباب، ودعوت الله أن يلقيَ عليَّ النوم حتى لا ينفطر قلبي من البكاء، فنمت حتى الفجر، ليدخل عدد من السجانين للعدد، وليعود البكاء وأنا أخبئ رأسي بين يدي.
ولما جاء الظهر، دخل سجانون ذكور لتفتيش الزنزانة فانفجرت باكية مجدداً، حاولت إقناعهم بأن حجابي وجلبابي هما جزء مني، وانتزاعهما كانتزاع جلدي وسلخه، ولا تصح صلاتي من دونه، ولا يجوز أن يراني الرجال من دونه.
يومها نقلوني من زنزانتي لأخرى، ولا أعلم السبب، ظننت أنها أفضل حالاً، ولما صرت فيها وجدتها مترين بمترين، ومياه المرحاض تسيل على أرضيتها، فقلت أتفقد الفراش، فرفعت "الفرشة" لأجد تحتها الصدأ والماء وصراصير ميتة، فقلت أتفقد المرحاض، فإذا به يمتلئ بالفضلات والأوساخ ومناديل ورقية، فقلت أفتح مضخة المرحاض حتى يبتلع ما فيه من القرف والنجس، يبدو أنه ابتلع، ولكن بقيت مضخة المرحاض مفتوحة طوال الليل، بصوت يصرع المتواجد في الزنزانة.
وكامرتان ترصدان مكان النوم والمرحاض، وباب الحمام زجاجي شفاف منخفض يصف ما خلفه، والزنزانة مقابل غرفة السجانة، وكل داخل وخارج يتفقد من السجانين، يتفقد الوافد الجديد في هذه الزنزانة القذرة.
لم يكن حماماً في زنزانة؛ بل زنزانة في حمام.
توضأت لأصلي العشاء، صليت بلا حجابي وجلبابي وبلا سجود لأن الأرض نجسة.
وفي اليوم التالي، عند الخامسة فجراً أعطوني حجابي وجلبابي لأخرج بهما إلى المحكمة.
وصلت المحكمة منهكة من السفر والبكاء المتواصل، ومن السهر الإجباري بسبب صوت مياه المرحاض، فبدوتُ شاحبةً حزينة كئيبة على غير العادة.
في الصورة، كنت أبث للمحامي كيف انتزعوا حجابي وأجبروني على خلع جلبابي، وعن وضع الزنزانة الجديدة وقذارتها، وكيف أنه للمرة الأولى في حياتي يراني الرجال بلا لباسي المستور، وأنني صليت دون سجود ولا لباسٍ ساتر.
يومها اجتمع قهر الدنيا كله في ملامح وجهي وتعابيره.
ولما ترافع عني المحامي، ووصف لهم ما يحدث لي في السجن، وانتزاعهم حجابي وجلبابي أصيب الحاضرون بالوجوم والقهر!
ونجح المحامي في استصدار أمرٍ من المحكمة بعدم انتزاعهما مني، وإعادتي لزنزانتي الأولى.
عدت من محكمتي ليعاودوا قهري وانتزاع جلدي مرة أخرى، وتم وضعي في مسلخهم القذر.
لكني قررت أن أنتزع حقي ولو بأسناني، فقمت بالصراخ والتكبير لأربع ساعات، حتى جاؤوني بمدير السجن، وأريته قرار المحكمة، فاضطر للالتزام به.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.