تكونت الفرق الأربعة لإنتاج أفلام تخرّجنا، يجب أن نصنع 4 حكايات مكتملة في يومين فقط، يوم للتصوير وآخر للمونتاج، في ظل إمكانيات بسيطة وعبر فريق العمل فقط من دون مساعدات خارجية.
ابتهجت عند إعلان أسماء مجموعتي، سلمى تلك الفتاة التي تحمل أحلاماً كثيرة واعدة، وعبدالرحمن المُجِدّ دوماً والمنشغل عنا بعالمه، وإيهاب صاحب الموهبة الذي لا يعرف للمديح طريقاً غير العمل.
دبت الخلافات في أغلب الفرق مع بداية النقاش حول الأفكار، تبددت الصورة الوردية لكل منا وانكشفت طباعنا كشمس الظهيرة.
"الفيلم الوثائقي هو رؤية شخصية للواقع"، هكذا تعلمنا، التحدي هنا كيف تكون الرؤية الشخصية واحدة لأربعة أفراد في ظل وقت قصير وطباع بشرية متنوعة وخبرات حياتية وعملية متفاوتة؟!
نال فريقنا حظاً وافراً من المناوشات على أشياء تبدو بسيطة، لكنها ما لبثت أن تحولت إلى خلافات شخصية وقودها سوء الفهم والتوقعات.
تبددت أجواء الهدوء وظهرت الغيوم، تذكرت تفاصيل العمل اليومية، ما الذي أتى بها إلى هنا، ولماذا يُحوّلُ الناس خلافات العمل إلى عداءٍ شخصي، لم أستطع لملمة الموقف، استدعيت نظرية الإنجاز، العمل لابد أن يبقى بعيداً عن الشخصنة، لكنني كرهت أن أترك أثراً سيئاً أو أن أقصّر في عملي.
جلست أفكر فيما حدث، مر "كمال "حاملاً صينية الشاي، يتردد اسمه بيننا أكثر من أي شخص آخر، يتحرك في أرجاء المكان طوال ساعات تدريبنا، يمر رقيقاً كريح، يحمل أطباق المربى والعسل إلى الفطور، يحضر الشاي ويتأكد من وجود أكواب زجاجية تكفي الجميع، يسهم في تجهيز المطعم قبل الوجبات وتنظيفه بعد تناولها، يتحرك صباحاً كنحلة لا تكل عملها بل تستمتع رغم صعوبته.
لا ينتهي دوره مع الغروب بل يواصل رحلته، ينهي جلب الخشب وقشر البندق للمدافئ، يسكب سائلاً ملوناً فتلتهب نارها في محاولة لتخفيف وطأة برد الكوخ الشديد. يشعل السخانات التي تأبى أن تستسلم لغيره، يجلب كل ما نريده أو ننساه في أماكن تدريبنا صاعداً الدرج الحديدي الطويل عدة مرات من دون كلل.
من المغرب العربي أتى الفتى، هو الوحيد الذي يتحدث اللغة العربية بين العاملين في "طاهورة"، نحيل وهادئ، على عكس من يمتهنون تلك الوظيفة، مُقِلٌّ هو في حديثه، لا يتدخل في شؤون غيره وينهي عمله بخفة وتركيز.
ألهمني كمال بحلٍّ لخلافنا، فتوزيع المهام كان التحدي الأكثر إزعاجاً للجميع، فالكل يرغب في الحصول على دور مهم ولقب يليق بما سيُكْتَب في تتر نهاية الفيلم وبما يريد أن يرويه عندما يعود حاملاً إنتاجه.
قررت تقمص دور كمال، فكما نردد اسمه الآن لابد أننا سنتذكره عند عودتنا بكل خير رغم بساطة دوره، في العمل الجماعي من الجيد أن نشارك جميعاً وفقاً لقدراتنا الحقيقية وليس أحلامنا أو تقييمنا لأنفسنا. سأنهي عملي من دون النظر إلى وصفه، لا يهم من سأكون مخرجاً أم منتجاً، المهم أن يكون العمل ذاته مبدعاً والأهم أن يكون أثري جميلاً.
بعد ساعات طلب الأستاذ أسعد مجموعتنا في جلسة مُصغَّرة اتضح أنه يحاول التدخل لحل الخلافات بعد أن اشتكى له زميل وقرر الانسحاب من الفريق، انزعجت من فكرة الشكوى، نحن بصدد إنهاء عمل ونحتاج لطاقتنا متقدة، الموضوع كان في طريقه للحل مع بداية العمل، هذا ما يحدث دوماً يدخلنا النقاش في خلافات ما تلبث أن تذوب مع العمل.
انضم إلينا أستاذ معاوية، مسؤول الإدارة في المخيم، أخذ يحدثنا عن أخلاقنا وضرورة حدوث سوء فهم وحرص على أن يوضح كل منا وجهة نظره ويعتذر عن ظن السوء أو الخطأ.
حدثت نفسي: "لماذا يتسرع بعضنا ويسيء فهم الآخر من دون استفسار؟! لماذا نترك أثراً موجعاً بالقلوب في مواقف تخص العمل أو الحياة عموماً؟!"، أعتقد أن قلوبنا أرق من أن تتحمل كل هذه الجروح الغائرة وإن اعتقد البعض أنها تتسع.
التقط أستاذ معاوية شرودي سريعاً، لديه قدرة عالية على فهم طباع البشر ويحمل روحاً رشيقة رغم ما يبدو عليه من تحفظ وتمسك بأغلب الثوابت، يشعرني هذا الرجل بجمال الهدوء وجلاله، مُستَمِعٌ من الطراز الفريد وحكَّاء مُسهِب.
ابتسامته تشبه صباحاً رائقاً أطلّ بعد ليلة ممطرة، تشي ملامحه بطيبة قلب ونقاء نفس لا تجدهما بسهولة، هناك مساحة تشغله كثيراً وهي ما بعد هذا العالم المثير للضجة، يحكي بشغف عن منظمة "أطباء حول القارات"، وهو أحد مؤسسيها، وكيف كانت حلماً بسيطاً وأصبحت واقعاً جلياً، تترك أثراً ملموساً في حياة البشر على مستوى العالم.
يبحث عن أشياء غير تلك التي يسعى خلفها المسافرون العاديون، ولا تملك مع انسياب حكاياته غير التفكير في وجوده في عالمنا، وكيف يستطيع المراوحة بين عمل يتقنُ تفاصيله وهدف بعيد يسعى لإنجازه دوماً.
يفهم أستاذ معاوية أستاذ أسعد بالنظرات، بينهما ما هو أكثر من الفهم العادي، يعرف تعليق الأستاذ حتى قبل التلفظ به، يبتسم ويسعى لتنفيذ ما يريده سريعاً، يعرف أن أستاذنا لا يرضى بما هو عادي يُقدّرُ أن ما يحلم به الأستاذ ربما يكون مستحيلاً لكنه يساعده على تحقيقه بإيمان راسخ.
تعلمت منه جمال الرضا، فما أصعب أن تترك راضياً حتى لو كنت محقاً، أشعر بأن لقاءنا سيكون مثمراً، بعيداً عن المخيم فهناك سبب خفي وراء كل لقاء.
ما فهمته من جلستنا أنه لابد من الفرار من أي تفاصيل قد تهدم العمل أو تزعج أي زميل، فالأولى إنهاء العمل بأقل قدر من الخسائر الإنسانية وأكبر قدر من الإبداع.
"يوجد معلمون مزيفون وأساتذة مزيفون في هذا العالم أكثر عددًا من النجوم في الكون المرئي، فلا تخلط بين الأشخاص الأنانيين الذين يعملون بدافع السلطة وبين المعلمين الحقيقيين. فالمعلم الروحي الصادق لا يوجّه انتباهك إليه ولا يتوقع طاعة مطلقة أو إعجابًا تامًا منك، بل يساعدك على أن تقدّر نفسك الداخلية وتحترمها".
تذكرت تلك القاعدة من رواية "قواعد العشق الأربعون"، هكذا هو مدربنا، لم يجبرنا على قرار ولم يقدم حلاً بعينه، ولم يكن إنجاز الفيلم وحده ما يشغله، بل أعطى لعلاقتنا الإنسانية أهمية بالغة، راهن فينا على ما سيبقى بعد هذه الرحلة.
"اكسر في نفسك كل الأشياء التي تجعلك تشعر بأنك متفرّد وليس مثلك بشر، وافعل كل شيء يجعل أثرك في الحياة متميزاً ليس كمثله شيء".
قاعدة ردّدتها ودوّنتها في يومياتي قبل النوم، لا أعرف إن كانت صحيحة دوماً، لكني صادفت أحدهم يطبقها في اليوم التالي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.