أبَت سماء واشنطن إلا أن أن تمطر ثلجاً في يوم عيد ميلادي، كنت أعتقد أني من مواليد الربيع، لكن أميركا صحَّحت لي ما اعتقدته لسنوات صواباً، واكتشفت أن مواليد الـ16 من مارس/آذار يحسبون على فصل الشتاء، اكتشفت يومها سرَّ حبي للمطر والبرد، ولمَ لَم أحب الربيع يوماً، ولا شمس أغسطس/آب الشريرة، ربما لهذا أرادت سماء واشنطن أن تكون هدية عيد ميلادي يومها.. ثلجاً.
ارتديت فستان سهرة أسود قصيراً، وضعت أحمر شفاه وردياً، ارتديت معطفي، وحملت هديتي لنفسي كعكة عيد ميلاد اخترت أن تكون بكريمة ناصعة البياض، أحببت دوماً اللون الأبيض وإن كنت أكره لون الثلج، يذكرني دوماً بوالدتي وهي ترتدي "حق الله" حزناً على والدي، سخرت دوماً من كندا في فصول البرد أنها " شادا حق الله ديماً".
اتصلت بمكتب سيارات الأجرة، منحت للسيدة على الهاتف عنوان المنزل، بعد ربع ساعة تلقيت اتصالاً منها تخبرني فيه أن السائق ينتظرني بالأسفل، ركبت المصعد، كان به رجل بدا أميركياً أسود، ربما ابتسامتي شجَّعته على الحديث إليَّ، سألني عن عملي أجبته أني أشتغل في مجال الإعلام، أخبرني أنه مدرس، ابتسمت أكثر وأنا أتذكر طلبتي في المغرب وبلدان آخر، لكن ابتسامتي لم تدُم طويلاً وأنا أسمع الرجل يسألني: "يبدو شكلك عربياً، هل أنت مِن دبي؟"، لم ينتظر الرجل حتى أجيبه أني من المغرب، سمعته يقول: "أريد أن أهاجر إلى دبي، يقولون إن الحياة هناك أجمل، لا ضرائب تنهك البشر، لقد تعبت هنا، أقضي يومي في حساب الضرائب، لقد تعبت، أصلي يومياً داعياً الله أن يأخذني إلى تلك البلاد، دبي".
خرجت من المصعد، وأمام باب الإقامة وجدت السائق ينتظرني، فتحت الباب الخلفي وركبت، تحدثت إليه بالإنكيزية، ونطقت كلمة بالفرنسية، رأيته من المرآة الأمامية ينظر إليَّ بتمعن، سألني السائق: "أنت تونسية؟"، أجبته وقد تبين من لكنته أنه مغربي: "لا مغربية مثلك"، استدار الرجل إلى الخلف، كان شاباً وسيماً، أبيض البشرة بلحية، أسود العينين، وشعر أسود مجعد، لو لم يتكلم لحسبته أفغانياً، قال لي: "جمالك تونسي، لا تبدين نهائياً مغربية"، ضحكت وأنا أسمع كلاماً لم أفقه قصده جيداً.
أخبرني أن اسمه يوسف، قال لي إن الطريق إلى حيث أنا ذاهبة طويل، فهمت أنه يشير إلى أن تكلفة النقل ستكون غالية، أجبته بألا يهتم، فهذا يوم عيد ميلادي، ولا أبخل على نفسي بشيء في يوم كهذا، كان الطريق طويلاً لدرجة أن الفتى الذي بدا في منتصف الثلاثينات أخبرني أنه كان متزوجاً من مغربية، التقى بها في إحدى الحانات، كانت الفتاة مدمنة للخمر والمخدرات، لم يهتم فقد أحبها كثيراً، لكن الزواج لم يدُم طويلاً، أخبرني أنها كانت تتأثر بكلام والدتها التي أرادتها أن تقترن برجل غني، انتهى الحب بالزواج ربما قبل أن ينتهي بالطلاق، وصلت إلى منزل أصدقائي حيث كانوا سيحتفلون بعيد ميلادي، نزلت من السيارة أتصارع وكعكة الميلاد، أخذت حقيبة يدي أريد أن أدفع له أجرة السيارة فوجدته يقول لي: "لا تدفعي شيئاً، هي هديتي في يوم ميلادك".
دخلت بيت الأصدقاء، كانوا يرقصون ويغنون، جلست بينهم أتنفس حبهم، وبجواري جلس أحد أصدقائي الفلسطينيين، بدا حزيناً، كان الفتى مثلياً جنسياً، جاري في السكن، وزميلي في العمل، أخبرني أنه انفصل عن "خطيبه"، قال لي إنه اضطر للغياب عن المنزل لأيام، وحين عاد شك في خطيبه، قلَّب في رسائله الهاتفية، وفهم أنه عاشر شخصاً آخر، "خاني يا شاما حبيبتي خاني"، قال لي الفتى بصوت حزين، في داخلي لعنته، ليس لمثليته فلست الله حتى أحاسب الناس، بل لأنه أشعرني بأن المثليين مثلنا، تنكسر قلوبهم حين تحب.
في الصباح، أحسست بتعب شديد، بعثت برسالة أخبر رئيسي فيها أني لن آتي للعمل، استسلمت للنوم، ثم بزغ فجر يوم جديد، توجهت إلى المحطة حيث يتوقف باص المؤسسة لنقلنا إلى مقر العمل، فتحت الباب، وصعدت، كان السائق باكستانياً، الكل كان يلعنه ويشتمه؛ لأنه لا يرد تحية الصباح، لم أهتم لا له ولا لهم، فحافظت على إلقاء التحية كلما صعدت الباص.
إلا أنه ذاك اليوم كان مختلفاً، حين صعدت قال لي: "أين اختفيت؟ لقد افتقدتك"، تفاجأت من كلامه، هل هذا هو السائق الذي نعرف؟ تساءلت مع نفسي: لِمَ ينتظر ردي على سؤاله؟ وجدته يقول لي: "افتقدتك، أنت الوحيدة التي تكونين مبتسمة وأنت تلقين تحية الصباح". ليس السائق الذي كان قليل الأدب، بل هم زملائي الذين لم يفهموا أن تحية الصباح عليه أن يشعر بها مبتسمة.
في المساء، خرجت في لقاء، كان الشاب أفغانياً شديد الوسامة والأناقة، موظف بالبنك الذي أتعامل معه، كان شديد اللطف وهو يحاول أن يشرح لي النظام البنكي لأميركا، لم أحب يوماً الأرقام، لكن الفتى جعلني أنصت اليه، قلت لصديقتي المصرية التي كانت برفقتي: "هذا الشاب وسيم"، كادت الفتاة تصرخ: "أن اصمتي سيفهم كلامك"، التفت إليه وقلت: "أنا أخبر صديقتي أنك فتى وسيم"، احمَّر خدّا الشاب، لكنه لم يتردد في أن يبادر بطلب الخروج في موعد، بدوري لم أتردد في القبول وكل ما يدفعني نحوه أنه أول أفغاني ألتقي به في حياتي، وخارج أولئك الأفغان الذين تقدمهم الشاشة بلِحى كثيفة ووجوه عابسة.
في مطعم فخم نتناول العشاء سألته: "في أي بلد شعرت بالسعادة أكثر؟"، أجاب بدون تردد: "أفغانستان بلدي"، تفاجأت من رده، "أفغانستان بلد طالبان كانت مكان سعادتك؟"، قال لي: "أفغانستان كانت بلد الجمال قبل أن يطأها الروس والأميركان.. أحلى أيامي كانت هناك، وأتعسها هي التي أعيش هنا".
في طريقي إلى شقتي ذاك المساء، صادفت في مصعد العمارة شاباً أميركياً أبيض، كان يرتدي ثياب الجندية، وقف الفتى صامتاً وقفة العسكري المنتظر للأوامر، أحنيت رأسي أبحث عن مفاتيح الشقة، انتبهت أن له يداً صناعية، قلت لنفسي: "المسكين، لعلها بترت في حرب أميركا على العراق"، كنت أهم برفع رأسي حين انتبهت إلى أن الفتى مبتور الساق، قلت لنفسي: "المسكين، لعلها بترت في حرب أميركا على أفغانستان"، تذكرت صديقي الأفغاني، شعرت بحقد على هذا الأميركي الأبيض، "لعله هو من تسبب في حرمان صديقي من سعادته في بلده"، حدثت نفسي غاضبة، ثم تذكرت الأميركي الأسود الذي التقيته بنفس المصعد وحلمه بالرحيل إلى دبي، السائق يوسف وطلاقه، الفلسطيني وانكسار قلبه، السائق الباكستاني وظلم زملائي له، رق قلبي مجدداً لهذا الجندي المبتور، فكرت أن أميركا تشن الحرب على كل الرجال على أرضها، فتح باب المصعد، وضعت قدمي على باب الخروج، التفت إليه وقلت: "تصبح على أميركا أجمل".
* هذا المقال منشور في جريدة الأخبار الصادرة بالمغرب.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.