من فترة كنت أدلل ابني، وقلت له من ضمن سياق الحديث: "يا أبو سمرة"، وهو لفظ تعوَّدنا قوله في بلادنا لمن هو أسمر البشرة أو حنطي، فلم أجد إلا أن ابني قد غضب ونزلت دموعه وقال لي: "هذه عنصرية!"، لوهلة أصابني الذهول، فوالله لم أقصد منها إلا نوعاً خاصاً من الدلال والحب، أخذته إلى جانبي، وأخذت بتوضيح المفهوم له بأننا في بلادنا نقول ذلك من جانب الدلال، وعادي أن نقول هذا أسمر أو أبيض، ولكم أن تتخيلوا أنني قد زدت الطينَ بلةً، فازداد غضباً وقال: "ماما هذه عين العنصرية، فنحن في مدرستنا التي تحمل شعاراً ضد العنصرية تعلمنا أن كل مَن يفرق باللون والشكل والدين والعِرق والقومية فهو عنصري، وأنت قلت أسمر، وهذا تفريق بين لونين، وبالتالي هذه عنصرية، فلن أحب أن أسمع ذلك، ولو من منطلق الدلال؛ لأنه ببساطة كلنا إنسان!".
لكم أن تتخيلوا أن طفلاً في عمر عشر سنوات زُرعت فيه هذه المفاهيم في مدرسة أساسية فيها قرابة الـ٤٠٠ طالب وطالبة، وكم جيلاً أخرجت هذه المدرسة!
أذكر في طفولتي أن موضوع التفريق باللون والجنسية كان عادياً جداً، ولم يكن هناك من يعترض إذا سمع لفظاً عنصرياً، أذكر أنه في المنطقة التي كنت أسكن فيها وأنا طفلة كان يوجد حي لداكني البشرة، فلقبه أصحاب الباصات بموقف السفارة السودانية، وهو كذلك حتى الآن، وكنت أرى الأطفال في المدرسة إن تعاركوا مع أحد منهم لقّبوه بالعبد، ولم يكن أحد ليقول لهم ويعلمنا: "عيب هذه عنصرية"، حتى مَن هم من ذوي الاحتياجات الخاصة لم يسلموا من الألقاب، فأذكر أنه كان في شارعنا طفل لديه خلل في عقله، كان اسمه المتعارف عليه "الولد الأهبل"، الكل كبيراً وصغيراً وأصحاب الدكاكين والمطاعم كانوا ينادونه كذلك، وكأنه اسمه وهو قد تعود على ذلك حتى أصبح شاباً.
بالمقابل في صف ابني هناك اثنان من متلازمة داون ويعاملان تماماً كغيرهما في التعليم والفرصة والرياضة، وفي بلادنا من لديه ولد بهذا المرض كان يخبئه في بيته خوفاً من نظرات الشفقة أو السخرية، أو لقب "المنغولي".
ذات مرة كنت في القطار وكانت سيدة عربية مع طفل على كرسي متحرك يظهر أنه يعاني من تخلف شديد؛ لأنه كان يصدر صراخاً عالياً ولكن لكم أن تتخيلوا أن مَن في القطار لم يلتفت ولم يهتم ولم ينظر نظرات شفقة أو انزعاج، عندما سمعتني أتحدث العربية على الهاتف سألتني عن مكان مستشفى الجامعة، فقلت لها "إنني في طريقي إليه سأدلك عليه"، فابتسمت وشكرتني، وقالت لي: "إنها تتمنى لو تعيش هنا في ألمانيا وللأبد مع ابنها، فلأول مرة منذ عشر سنوات تشعر أنها أم طبيعية تتجول بابنها في الشوارع والمواصلات دون حرج، وفي المستشفى يعاملونه بكل حب، بل ويلقبونه بالملاك الباسم؛ لأنه يبتسم كثيراً ويلعبون معه، والطبيب يقوله له يا صديقي، وإنها تجلس معه في المطاعم دون حرج، وإن كل المرافق فيها حمامات لمن مثله، وكذلك المواصلات والشوارع والبنايات، وحمدت الله أنه وهبها هذا الطفل بعد سنوات من الحرمان وكررت مراراً أحمد الله إنه سهل لي طريقاً إلى هنا لأشعر بالراحة والسلام".
ألا يجب أن نربي الجيل القادم على هذه المفاهيم، ونذكر لهم أننا "كلنا بشر أو من بني الإنسان"، وأن نترك جانباً التفكير العنصري باتجاه أي شكل ولون وقومية ودين.
عن نفسي أعطاني ابني درساً لن أنساه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.