لدينا جميعاً كمّاً هائلاً من المخاوف والرغبات التي تشكل الدوافع الخفية وراء سلوكياتنا، واختياراتنا، وتحركنا باتجاه معين دون آخر.
لكوننا كائنات اجتماعية، فإن بيولوجيتنا تحتم وجود رغبة أولى يقابلها خوف أول، يشكلان جزءاً من كينونتنا الاجتماعية تلك.
الرغبة الأولى في الحب، والخوف الأول من الرفض.
جميعنا نشعر بالخفة إزاء محبة الآخرين لنا، ونزهر، ونزدهر.. في المقابل، نتقوقع عندما نشعر بأننا مرفوضون، نشعر باللاأمان، أو كأننا سُلبنا شيئاً كنا نعتبره حقاً بديهياً.. السيناريو الأسوأ هو عندما تهتز صورتنا طويلاً في أعيننا نتيجة شعورنا بالرفض، ونظل نبحث عن صورة أفضل لها، صورة ثابتة تعتمد على نظرة الآخرين، لأننا أبداً لن نجد ضالتنا، وأبداً لن تتوقف الصورة عن الاهتزاز، لأنها رهن أهواء الآخرين ونظرياتهم، ولأنه في هذه الحالة علينا أن نقطع شوطاً إضافياً في رحلتنا الفردية، كي نعيد الصورة، بأعيننا، إلى ثباتها.
لا أودُّ الخوض في نتائج خسران المرء صورته والعيش دائماً وفق نظرة الآخرين، وإنما الحديث حول أنه أمر طبيعي جداً وصحيّ أن نهتم بحب الناس لنا، وتأثيرنا فيهم، وأن الحب والرفض رغبتان غريزيتان لدى الإنسان، أو لنقُل فطريتان.
من يقول لنا إنه فعلاً لا يهتم بما يقوله الناس فهو في أعماقه من أشد الراغبين في هذا الحب!
لماذا نهتم بأن يحبّنا الآخرون؟
الطبيعة البيولوجية لعمل دماغ الإنسان وميله إلى التفاعل الاجتماعي منذ الخلق يترجمان على أن الحب والقبول من الآخرين يعنيان الانتماء، والأمان؛ ومن ثم فالاستمرارية.. في المقابل، الرفض يعني الموت وحيداً، الجوع، الخوف، الغربة.. وهذا يؤدي دوراً مهماً في رفع قيمة الفرد لنفسه بمجموعته ليبقى محبوباً، ويعطيه ضوابط لسلوكياته واحترامه حدوده، كي يضمن "رغبته الأولى" في جيبه، طالما لم يخرج ذلك عن الإطار الطبيعي والفطري لهذه الرغبة، لأنه سيكون في هذه الحالة، وجهاً آخر للخوف من الرفض.
الرغبة في الحب، والخوف من الرفض وجهان لعملة واحدة، ودافعان يبدوان مختلفين لنية واحدة.. عندما تزيد رغبتي في الحب على طبيعتها، وأبذل جهداً متكلّفاً كي أبقى ضمن مجموعتي، تكون -لا وعياًـ أنني خائفٌ من الرفض، والخوف من فقدان شيء، يدل على أنني لا أعتبره فطرة وطبيعة وحقاً بديهياً.
تعلّمت في أولى خطوات رحلتي الذاتية -ليس منذ زمن بعيد على فكرة- أن أي فعل يقوم به الإنسان هو فعل نابع من حب
Every act is an act of love.
أي إن الدافع إلى كل الأفعال مهما تنوعت، هو الرغبة الفطرية الأولى، حتى تلك الأفعال الأكثر نبذاً ووحشية ورفضاً.. فكِّر في أكثر الأفعال التي ترفضها: الكذب، الاستغلال، الانحراف، الإدمان، الاغتصاب، القتل.. كلها أفعال منبوذة، لكنها نتيجة دافع خفي لدى مرتكبها بأن يحقّق نوعاً من السعادة والرضا والحصول على الحب. ذلك لا يعني تسويغ هذه الأفعال أو عدم معاقبة مرتكبيها، لكنَّ فهم الرغبة الأولى في الحب لدينا جميعاً، لديَّ، ولدى والدتي وأخي وصديقي وزملائي في العمل، وحتى المدمنين والمنحرفين- يؤدي إلى القبول والبعد عن إطلاق الأحكام الأعمى، ويفتح المجال أمام ما هو أوسع من الحب، يفتح المجال أمام الشعور بالرحمة.
الرحمة أو التعاطف هي ما يبني جسراً متيناً بيننا وبين التواصل مع الرغبة الأولى في الحب والخوف الأول من الرفض.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.