عندما كنتُ معلماً لطفل مثل «أوغي» في المدرسة

عربي بوست
تم النشر: 2019/02/05 الساعة 08:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/12/07 الساعة 08:36 بتوقيت غرينتش
الطفل أوغي بطل فيلم wonder

قبل وبعد تخرجي في الجامعة وقبل أن أعمل بالصحافة، عملت بالتدريس، تلك المهنة المحببة إلى نفسي، لأسباب أغلبها لا شعوري.. كان من ضمن الأولاد الذين شرفت بتدريسهم، ولد ذكي، عبقري، مرتَّب لأبعد الحدود، كانت له ابتسامة رائعة، لطالما أحببت أن أراها مرسومة على وجهه.. وهو مع ذلك، كانت جل حركاته وسكناته تتم على استحياء شديد، والتوتر ملازم له، وانطوائي لأبعد حد، ربما لأن الله وهبه بشرة سوداء، وشعراً مجعداً، وبنية نحيفة، وما من عيب شكلي بمقاييس بعض البشر إلا وكان له منه نصيب.

حاولت أن أمنحه الثقة بنفسه مراراً، لكن لم يتسنَّ لي البقاء معه طويلاً.. ودارت بخلدي بعدها مجموعة من الأسئلة التي تدور حول قضية تعزيز الثقة بنفوس الأولاد والبنات، لنضمن لهم اندماجاً صحياً فعالاً في محيطهم الاجتماعي.

فمع التعمق في دراسة علم النفس وعلم الاجتماع، وقفت على مدى التأثيرات السلبية التي تنخر في البنية النفسية للأطفال والمراهقين والمراهقات الذين وهبهم الله شكلاً ظاهرياً يعد بمقاييس مجتمعاتهم منفِّراً، لا سيما ونحن نعيش في مجتمعات عنصرية بطبعها، تقيّم الإنسان بشكله الظاهري، في أغلب الأمر.

ولهذا لما طُرح فيلم "وندر-Wonder" في عام 2017، أدركت أن سر تقدُّم الأمم يكمن في اهتمامها بالإنسان من حيث كونه إنساناً، منذ أن يُولد، وإلى أن يموت.. وتعمقت أكثر في الاطلاع على الدراما الأمريكية تحديداً، وعلاقتها بالبعد الاجتماعي، وقارنت ذلك الأمر بما يحدث لدينا في دول العالم الثالث، فوجدت فارقاً هائلاً.

فيلم "Wonder" تكلف إنتاجه 20 مليون دولار، لكنه حقق إيرادات تقدَّر بـ202.5 مليون دولار، يحكي قصة طفل وُلد مشوَّهاً يدعى "أوغي"، شخّص الأطباء مرضه على أنه إحدى المتلازمات التي تشوه وجه المصاب، وتتسبب في إصابته برغبة لا شعورية في العزلة عن الناس؛ وهو الأمر الذي يُفقده الثقة بنفسه ويجعله متوتراً على الدوام.. وقد تفضي به تلك الحالة إلى الانتحار، إذا لم تدركه عناية الله ثم فهْم المحيطين به وحبهم.

تُقرر أمه العبقرية (جوليا روبرتس) أن تعلمه في البيت، غير أنها ارتأت أن تدمجه مع أقرانه في البيئة المدرسية، وتحديداً عند وصوله إلى الصف الخامس الابتدائي، ليكتسب مهارات يصعب أن يكتسبها داخل البيت حتى لو ألمَّ بالمقررات الدراسية، فاتفقا على أن يذهب إلى المدرسة. وكما توقَّع الطفل، كان منبوذاً من أصحابه، يراه الأولاد والبنات فيهربون منه، إلا صاحباً واحداً، يُدعى "جاك"، فاطمأن قلب "أوغي" إليه، واعتبره صديقاً يُغنيه عن بقية الصف.. حتى سمعه يوماً يقول لأحدهم: "لو أن لي وجهاً مثل وجه (أوغى) لانتحرت"!

يدخل "أوغي" في حالة نفسية سيئة ويقرر عدم الذهاب إلى المدرسة مرة أخرى.

هنا يأتي دور الأخت حينما يعجز الأب والأم عن الإقناع، ليعكس لنا المُخرج قيمة عظيمة، قيمة تكامل أدوار الأسرة، وتعاضد جهودها من أجل الوصول إلى حل يُرضي الأطراف كافة، فلقد أقنعته أخته بأن يذهب إلى المدرسة، بعدما حشت عقله بأفكار تبعث بالثقة بالنفس.

بعد الأخت يأتي دور المَدرسة التي تسلط عليه إحدى زميلاته لتكون قريبة منه، غير أنها لا تنظر إلى الأمر من باب الشفقة، بل من باب الاقتناع بشخصية "أوغي"، وتصبر البنت على العلاقة رغم سخرية زملائها منها.

بعد دور الأسرة، والمَدرسة، يأتي دور المعلمة التي تطلب عمل مشروع علمي، شريطة أن يشترك بالمشروع شخصان؛ في محاولة منها لإدماج "أوغي" بمجتمعه الطلابي.

أحداث ملهمة جرت في هذا الفيلم لا أستطيع سردها، لضيق المساحة، تعكس كمية الضغوط التي مورست على الطفل المشوه "أوغي"، لكنه بفضل أسرته، وأمه تحديداً التي سعت بكل قوة لتعزيز ثقته بنفسه- نال في حفل نهاية العام الدراسي جائزة أكثر شخصية طلابية مميزة بالقوة والإصرار.

قريباً من الفيلم الدرامي وبعيداً عنه، أزعم أن الإنسان لا يقيَّم بشكله؛ فجمال الجسم مع قُبْحِ النفوس كقنديلٍ على قبر المجوس، الإنسان يقيَّم بروحه وجهده وعزمه وتقواه.

أُدرك أننا نعيش واقعا بئيساً، لكن الأصل أن مجتمعنا مجتمع العمل والإيمان. لقد كان سيدنا أسامة بن زيد، حِبُّ رسول الله، شاباً نحيلاً، قصيراً، أسود، أفطس الأنف، لكنه قاد جيشاً به كبار الصحابة، ومن ضمنهم أبو بكر وعمر، وهو ابن السابعة عشرة.

ولقد تبسَّم الصحابة ذات يوم من دِقَّة ساق ابن مسعود رضي الله عنه، فنهرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لهم: "والذي نفسي بيده لهما -يقصد ساقيه- أثقل في الميزان من جبل أُحد".

واشتهر الأحنف بن قيس -رضي الله عنه- بحِلمه، وورعه وسِعة علمه، ولم يقف أحد كثيراً عند قامته القصيرة، واسمرار بشرته، واعوجاج رِجله، وضعف وجهه، وجمعه أوصاف قبح المنظر، ومع ذلك كان سيد قومه، قالوا عنه: إذا غضِب غضِب له مائة ألف سيف، ولا يسأله سيف منها لماذا غضب.

ومن رحمة الله بالبشر أن جعل مقاييس الجمال نسبية، فما تراه أنت ذميماً يراه غيرك جميلاً، والعكس، فلا تنشغلوا بهذا الأمر كثيراً، وانشغلوا بما يخلّد ذكراكم في الدنيا من الأعمال الصالحة، ومن ضمنها التفوق الدراسي والعلمي، ويضمن لكم مستقر رحمة الله في الآخرة.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
سيد حمدي
كاتب وصحفي مصري
تحميل المزيد