"الرواية مجرد مضيعة للوقت".. لاحظت مؤخراً أن هذه العبارة تتكرَّر على لسان الكثيرين، وقرأت أيضاً بعض التدوينات، سواء هنا أو عبر مدونات الجزيرة، أو منصات أخرى، يقول فيها أصحابها إن الرواية لا تفيد بشيء ولا تضيف للقارئ أي معلومات أو أفكار مفيدة، ومن الأفضل الانصراف عنها لمشاهدة الأفلام والمسلسلات، أو على الأقل قراءة الكتب الفكرية البعيدة كل البُعد عن جنس القصة أو الرواية!
أعتقد من وجهة نظر شخصية (قد تحتمل الخطأ أو الصواب)، أن هذا الرأي ينمّ عن سوء فهم عميق للرواية كجنس أدبي قائم بذاته، ولو أنني لا ألوم أصحاب هذا الرأي في شيء، مع الانتشار الواسع لما بات يعرف بـ"روايات الساندويتش" السطحية وفارغة المضمون، وإن كانت تنال إعجاباً كبيراً من لدن جمهور (جمهور ولم أقل قراء؛ لأن الفرق واسع وشاسع بين الكلمتين) يبحث بالدرجة الأولى عن التسلية لا عن الاستفادة والدعوة إلى التفكير والتدبر، ما أجبر مجموعة من العناوين المهمة على التنحّي جانباً أمام إعصار "ما يطلبه هذا الجمهور!".
الرواية في مفهومها الواسع مرآة للشعوب، وأصحاب الرأي المذكور لم يسمعوا ربما برواية "كوخ العم توم" التي كانت أول شرارة لانتفاضة السود ضد الهيمنة العنصرية البيضاء في الولايات المتحدة الأمريكية، "عناقيد الغضب" التي دفعت الحكومة الأمريكية إلى إعادة النظر في تعاملها مع الطبقة الفقيرة التي عانت الويلات جراء تبعات الكساد الكبير سنة 1929، وصف دوستويفسكي لويلات معتقلات سيبيريا الذي أجبر السلطات الروسية على التخفيف من قبضتها الحديدية والتعامل بشيء من الإنسانية مع السجناء، "كائن لا تحتمل خفته" لميلان كونديرا التي سلَّطت الضوء على الاحتلال السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا، خماسية "مدن الملح" لعبد الرحمن منيف التي قدمت نظرة استشرافية لواقع ومستقبل الخليج (هذه فرصة لأدعوكم لقراءتها في ظل الأوضاع التي خلَّفتها أزمة الخليج الحالية)، وغيرها الكثير من الأعمال التي تركت بصمتها في التاريخ وربما ساهمت بلا مبالغة في تغيير مجراه!
هذا الكلام لم يكن سوى مقدمة لا بد منها للحديث عن رواية قال عنها نقاد اسرائيليون إنها أخطر على كيانهم من جيوش عربية! كيف ذلك؟
تعثرت حنة على سلم مبنى في كلية تيرا سانتا التابعة للجامعة العبرية، تمتد يد ميخائيل لتُعينها على النهوض. عثرة فابتسامة فعدة لقاءات فزواج. ومن هنا بدأت القصة..
كتابنا لهذا الأسبوع هو رواية "حنة وميخائيل" للروائي الإسرائيلي عاموس عوز، صدرت لأول مرة باللغة العبرية أوائل أبريل/نيسان من سنة 1968، ومنذ صدورها خلَّفت الكثير من الجدل السياسي والأدبي الذي تراوح بين النقد العدائي والإعجاب المتحمس، فكان طبيعياً أن تتصدر قوائم الكتب الأكثر مبيعاً في الأراضي المحتلة لفترة طويلة، وأن تترجم لعدة لغات عالمية (كالعادة لم تترجم هذه الرواية إلى اللغة العربية إلا في وقت متأخر جداً جداً).
هي حكاية انهيار وفشل زواج بسبب الاختلاف الشديد بين الزوجين حنة وميخائيل المنتمين لجيل الصابرا، فحنة طالبة الآداب، فتاة حالمة تعيش في عالم أحلامها هرباً من واقعها الذي لا معنى له، أما ميخائيل طالب الجيولوجيا العملي، فطموحه أهم من أي شيء آخر، كل هذا وسط أجواء مدينة القدس إبان فترة الخمسينات.
يمكن اعتبار "حنة وميخائيل" نقلة نوعية في الأدب العبري، فبعد جيل البالماح (اليهود القادمون من مختلف أنحاء العالم إلى الأرض الموعودة) الذي اقتصر على وصف البطولات الزائفة، والحلم الوردي الكاذب الذي يعتبر أن كل مشاكل اليهود قد انتهت بعد الاستقلال وإقامة دولة إسرائيل (من المنظور الصهيوني طبعاً) وأن المشكلة الوحيدة المتبقية هي "العرب".
جاءت هذه الرواية لتصور لنا صراع الأجيال في المجتمع الإسرائيلي، بعد ظهور جيل الصابرا (الجيل الذي وُلد في الأراضي المحتلة) والذي وجد نفسه أمام مشاكل نفسية واجتماعية واقتصادية حقيقية، لا تقل أهمية بأي حال من الأحوال عن المشكلة الكبرى (العرب)، رغم أن هذا الجيل هو نفسه الذي عوَّلت عليه القيادة الإسرائيلية لترسيخ أقدام اليهود في الأرض الموعودة، وهذا قبل النصر الكبير الذي تحقق في 5 يونيو/حزيران 1967، والذي وجَّه ضربة قاصمة للعرب، وقد كتبت هذه الرواية قبله بأشهر قليلة.
تنتمي هذه الرواية إلى صنف الأدب النفسي، المتأثر إلى حد بعيد بأدب فيودور دوستويفسكي، فالأحداث قليلة جداً، لكنها مغرقة في الوصف ولا تترك أدق التفاصيل، والسوداوية والكآبة مسيطرة على أجواء نفسية حنة بطلة الرواية، كما أظهر عاموس عوز قدرة واضحة على نقل أحاسيس معينة بمجرد وصفه للأماكن وحالة الطقس وغيرها، أضف إلى ذلك أنها لا تنتمي إلى الأدب السياسي، فرغم رمزية الأجواء والظرفية، إلا أن هذه الرواية تبتعد عن وصف الجو السياسي العام بشكل صريح وتقترب أكثر من "الإسرائيلي" كشخص وككيان.
قد يقول قائل بأن في عبارة "رواية أخطر على إسرائيل من جيوش عربية" فيها الكثير من المبالغة المعتادة في الخطاب الإعلامي الإسرائيلي، مع احتقار ضمني لا تغفله العين لعموم العرب، لكن تتبع الشأن الإسرائيلي والعقلية الإسرائيلية قد يقدم لنا تحليلاً من منظور آخر يكشف لنا سبب البلبلة التي أحدثتها هذه الرواية في الأوساط الإسرائيلية، إذ كشفت "حنة وميخائيل" كما قال عوز بلسانه في حوار صحفي: "على السطح في إسرائيل هناك ثقة في النفس هائلة، رصيد ضخم من اللامبالاة، ومن إجابات سخيفة تدور في أي ذهن، ولكن هذه الثقة تطفو على السطح فقط، بينما في العمق وفي داخل طيات الضمير والعقلية الإسرائيلية، هناك شعور قديم بالفزع اليهودي التقليدي، هذا الفزع يبرهن عن نفسه في الشعور بالذنب تجاه العرب".
المقصود أن هذه الرواية قد عرّت "الإسرائيلي" أمام العالم وأمام نفسه، نعم، هو يتمتع بالقوة العسكرية والتفوق العلمي والتكنولوجي أمام نظرائه العرب الغارقين (حسب تصوره) في تخلفهم ورجعيتهم واقتتالهم، ويتفاخر بذلك أمام الجميع، لكن هذا لم يكن كافياً لحماية الإسرائيلي من شعوره بعقدة الذنب تجاه ضحاياه، مع خوفه الشديد من حاضره ومستقبله الذي يراه ضبابياً ومرتبطاً بالدرجة الأولى بأمنه المفقود، ولعلمه أيضاً بأن ما انتزعه غصباً لن يدوم له، وإن طالت السنون والأعوام.
يعتقد البعض بأن حنة وميخائيل هما نفسهما بانيا وأرو والدا عاموس عوز، ذكرهما في سيرته الذاتية الروائية "قصة عن الحب والظلام"، بطبيعة الحال لا يمكن الجزم بذلك، لكن الواضح والأكيد أن "حنة وميخائيل" تعتبر مدخلاً أساسياً للاطلاع على الأدب العبري الذي نجهل سبب تراجع الاهتمام به بشكل ملحوظ من قِبل النقاد العرب.
الأدب كما قلنا مرآة الشعوب، وأول مدخل لفهمها ودراسة نفسيتها وسبل التعامل معها، في إسرائيل هناك اهتمام واضح بدراسة الأدب العربي وتطوره عبر العصور وصولاً إلى وقتنا الحالي، فيما تبقى الإسهامات العربية في هذا الشأن ضعيفة للغاية وتحتاج الكثير من الجهد للنهوض بها، رغم المحاولات الجدية التي بدأت في الستينيات وكان من روادها الأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني وكتابه "في الأدب الصهيوني"، هو الذي أدرك بنظرته الثاقبة وفهم قبل غيره أن المواجهة مع العدو تحتاج إلى البندقية والدبابة.. والقلم أيضاً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.