في حضرة الحكاية "4" | غامر.. لا تدع الخوف يأسرك!
لم أكتب في كراسة يومياتي تلك الليلة ولم أحظ بنوم جيد، حاصرتني الكوابيس، رأيت ابنتي الصغرى تسقط من سطح علٍ، تمنيت لو أقبّلها الآن وأبكي في حضنها، هاتفت صديقتي التي تستضيف طفلتَيّ في بيتها وتحدثت إلى كرمة سريعاً، أنهيت المكالمة وغرقت في شرودي.
كان صباحاً ممطراً، في "طاهورة" تتقلب الأجواء، يهطل المطر بغزارة فجأة، ثم تسطع الشمس لتداوي ما تركه المطر، كم أنا بحاجة إلى شمس تزيح عني ثقل هذا الإحساس الموحش بالحزن والخوف.
حاولت مقاومة مشاعري فطالما انتظرت اليوم الثالث للمخيم، فهو يوم جولة القرية المجاورة، تُرى كيف ستكون قرية الطواحين التسع، وكيف هم أهلها!
صعدت الحافلة طريق الخروج من المخيم ببطء لم أتوقعه، فالطريق يحتاج دفعة قوية لصعوده في ظل الوحل والانحدار الشديد، قاوم موتورها وتحمل أثقالنا هادراً، اخترت المقعد الأخير متأملة هذا المشهد البديع من نافذته، نهر يجري سريعاً وأشجار كثيفة تعانق السماء وأبخرة تتصاعد فتضفي مزيداً من السحر، مع هطول مطر خفيف، وبعيداً هناك تقبع بيوت متناثرة بألوان زاهية على مسافات متباعدة..
"ربما تطول أعمار هؤلاء الذين يعيشون هنا من جمال المنظر وعذوبة الأجواء، أم ترى لديهم من الهموم ما يقض مضاجعهم مثلنا!".
حدثت نفسي، حاولت الابتسام عبثاً، زادتني الطبيعة الرائقة غرقاً في سكوتي، وعلى قدر الجمال تملكني وَجل، فالحافلة تسير على حافة رفيعة جداً لطريق مرتفع وخطر يمر فوق نهر سريع.
شغلتني فكرة ارتباط الجمال بالخوف، كثيرة هي الأشياء الجميلة التي تحتاج منا طرد مخاوفنا، نتمناها ونتأمل حُسْنَها ولكن قد يهزمنا الخوف فنتركها من دون مساس، أشعر بروحي ثقيلة، لا أعرف لماذا أبكي الآن؟
في مقهى صغير مجاور لشجرة تاريخية على مقربة من إحدى الطواحين القديمة، جلسنا نحتسي الشاي، دعاني مدربنا إلى كاسة شاي تركي، يبدو أنه لاحظ شرودي..
"كيف المزاج؟!" سألني بعطف، قاومت مشاعري وقلت له: تمام، بعض التقلبات العادية، وددت لو أبكي أكثر. سأل عن البنات! سكتت قليلاً.. كيف لهذا الرجل بكل هذه البصيرة، أشعر بأنه يقرأني رغم أننا لم نلتق من قبل إلا مرات سريعة متباعدة..
أخبرته بقلق أصابني ليلاً وطمأنته على الفتاتين. وصف ما حدث بالحنين، ابتسم ومضى يحكي..على الطاولة الصغيرة انضم إلينا زملاء جدد، أخذنا الأستاذ معه بعيداً إلى أسفاره التي تحمل روايات ممتعة ومرهقة، وقبل نهاية الجلسة كنت قد لمحت شمس روحي تعود رويداً..
أصف أستاذ أسعد بالمَّشَاء، أعتقد أنه يسافر ليعرف لا ليعمل.. أشعر عندما يحكي بشغف عن الناس والأمكنة أن المكان ينبض حياة فلا يسعني في نهاية الحكاية إلا أن أضيف هذا المكان إلى لائحة أسفاري القادمة.
واصلنا الرحلة، على جانب الطريق توقفنا، دخلنا حديقة منزل قروي، تجري دواجنه بهدوء العارف بحدود مكانه وزمانه، وترعى الأبقار في الجوار بسكينة أفسدناها بأصوات آلات تصويرنا المتسارعة.. هنا ابتسمت للمرة الأولى منذ الصباح، تذكرت ديوك أمي وبقرتها الصفراء عدت قليلاً إلى طفولتي وهدوئها… حملت آلة تصويري وبدأت ألتقط بعض الصور، ناداني طفل جميل يعتلي نافذة المنزل، التقطت له صوراً عدة، ذكرني بابنتي الصغرى وكأنه جاء ليعوضني قسوة الكابوس، أهداني وأخته وروداً جميلة من حديقتهم قبل أن أغادر.. اتسعت ابتسامتي.
في الجوار كان هناك شلال صغير، كان عُقبة يقف مشغولا بالتقاط الصور، وافيته هناك وسرقت لقطة له وهو منهمك، أخبرني بأنه لا يحب أن يكون هدفاً للتصوير ويخاف أن يموت فتكون تلك الصور سبباً في بكاء أمه، سألته لماذا يتحدث دوماً عن الموت وهو ما زال فتًى على عتبات عقده الثاني، أخبرني عن أصدقائه الذين قضوا في الحرب، وأنه لم يعد يخاف الموت بل فقط لا يريد لأمه أن تحزن.
تحدثنا قليلاً، حكى لي عن أحلامه ولماذا أتى إلى هنا، أخبرته أنه محظوظ لأنه اختار ما يريد مبكراً، لم ينتظر سنوات دراسة ضائعة أو عمل غير ممتع وجد حلمه وسار يطور ذاته. قال إن الأمر لم يكن سهلاً.
حدثني عن رفاقه في سوريا، وبدأ بعبدالرحمن صديقه ورفيق دربه وزميلنا في المخيم، توقعت معظم ماقيل إلا تلك الجملة "تزوج حديثاً" شغلتني الفكرة.. يبدو عبدالرحمن جاداً طوال الوقت، منشغلاً بشيء ما خارج حدودنا يتبادل الرسائل مع رفاقه في الحرب ولكنه في الوقت ذاته منتبه جداً لما يُقال، يُجرب قواعد أستاذنا ويسأل عن تفاصيل إضافية، يشارك وقتما تكون المشاركة ضرورية ويكره إضاعة الوقت ومقتصد للغاية في الضحك.. لذا ينظر بضيق كلما شاغبت في جلساتنا، يعتبرني أُضَيع الوقت.
يبدو أن له وجهاً آخر لم أعرفه بعد، فشاب في مثل سنه يقضي وقته وسط حرب يودع كل يوم حبيب ويقرر وسط كل هذا بداية حياة جديدة بالزواج ويشارك في مخيم لصناعة الوثائقي، يبدو أن لديه مهارة واضحة في مقاومة الخوف.
ربما تحمل الأيام القادمة قرباً أكثر منه فقد وقع اختيارنا في مجموعة واحدة لصنع فيلم التخرج.
محطتنا الثالثة كانت عند الجسر المُعَلَّق، صعدت بضع درجات، وقبل أن أبدأ نظرت حولي وعاودني الخوف، هاهو جسر خشبي فوق نهر سريع يفترض أن أعبره، لماذا اختار أستاذنا القدوم هنا كجزء من برنامجنا؟!
حتما عبور الجسر بالنسبة له أمر أقل من عادي وهو الذي عاش حروباً عديدة وتنوء ذاكرته برائحة الموت الذي فوَّته مرات؟! ربما يريدنا أن نتعلم شيئاً ما بذلك الاختيار!
يمكنني أن أقف هنا أتابع زملائي يمرون وألتقط صوراً تذكارية لهم؟! ويمكنني أن أجرب، لا إجبار على شيء هنا فالاختيار لك والاحتمالات جميعاً مُرَحّبُ بها لم تكن الخيارات كثيرة إما الدخول في التجربة أو الاكتفاء بالفرجة!
عندما لامست قدماي الجسر، وددت لو أعود مسرعة وأعلن استسلامي، تذكرت تلك المرة التي ذهبت فيها لمدينة ملاه شهيرة في مصر قبل عامين، اخترت لعبة تتأرجح بين السماء والأرض داخل كرسي متسارع، فزعت بعد دقائق من تحرك اللعبة، علا صراخي وصحت مثل طفلة صغيرة "نزلوني"، لم يعرني العامل المسؤول اهتماماً، فاستسلمت وتنفست ببطء ورددت الشهادتين، بعد دقائق مرت دهراً حطت اللعبة الأرض، أفرغت ما في جوفي وهربت سريعاً من الملاهي ولم أكررها. يبدو أنني لم أعد كما كنت من قبل، تلك الفتاة التي تسخر من الخوف وتناطحه.. زادت سنوات عمري ومعها زادت مخاوفي!
بدأت قدماي تحطان على الجسر ببطء وحذر، نظرت عالياً تجاه خط النهاية لزملائي الفرحين بإنهاء مغامرتهم هناك في محاولة لإلهاء نفسي عن النظر أسفل قدماي، رغماً عني راقبت النهر، هل أسقط هنا الآن وأغرق؟ وماذا لو حدث هذا؟ هل سأموت؟
إذن فلتكن النهاية جميلة وسط خضرة وماء ووجه حسن.. تابعت خطواتي، أنا الآن أفضل بكثير، مررت بخطى أكثر ثباتاً وفي المنتصف توقفت لالتقاط بعض الصور.. طريق العودة كان مختلفاً، كثير من المتعة وقليل من الحذر.. ربما يحرمنا الخوف متعاً قد لا ننالها ما لم نجازف!
مرّت بخاطري محطات حياتي بعد عبور الجسر، كنت أعتبر نفسي طائشة، ولكن بقليل من التدبر وجدتني نادرة الطيش، أخاف كثيراً من أشياء متفرقة، كنت أخاف الناس وأخاف التقاليد وأخاف إغضاب أمي وأخاف فقدان أحبائي وأخاف أحياناً أن أفكر في أمر ما حتى لا أتعلق به. قبل أسابيع نصحني صديق بأن أكون أقل تعقلاً وأكثر مجازفة، ووعدني بكثير من المتعة إذا جربت ما يقوله.. وقتها لم أفكر في كلماته بعمق، يبدو أنني أحتاج تطبيق تلك النصيحة.
قبل النوم، ابتسمت وأنا أعيد التفكير في لحظة ما بعد عبور الجسر، كم كان الموضوع بسيطاً فيما بدا مستحيلاً، لا نعلم مدى صعوبة الشيء أو بساطته إلا بتجربته.
راودتني جملة تكررت في رواية ميلان كونديرا "كائن لا تُحتمَل خفته" وهو الكتاب الذي رفضت قراءته لسنوات ثم غرقت في حبه وأنهيته مرتين في وقت قصير
تقول القاعدة: "الحياة الإنسانية لا تحدث إلا مرة واحدة، ولن يكون في وسعنا أبداً أن نتحقق أي قرار هو الجيد وأي قرار هو السيئ؛ لأننا في كل الحالات لا يمكننا إلا أن نقرر مرة واحدة.. لأنه لم تعط لنا حياة ثانية أو ثالثة أو رابعة حتى نستطيع أن نقارن بين قرارات مختلفة".
كنت أعتقد أنني فهمت تلك القاعدة وبدأت تطبيقها ولكن يوم المخيم التالي أثبت أنني أحتاج للمزيد من التمرين.
"يتبع"
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.