إن تدبُّر القرآن هو الغاية من تلاوته، ومعنى التدبر هو النظر في أدبار الأمور، أي في عواقبها ومآلاتها. والإمام أبو حامد الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" ينبِّه إلى أعمال باطنة لا بد من مراعاتها قبل التدبر، وهي فهم أصل الكلام، وتعظيم الكلام، وحضور القلب، ثم التدبر.
من هذه الأعمال الباطنة الثلاثة، فإن حضور القلب هو الأصعب. ففهم أصل الكلام وتعظيمه يعرفه كل مَن يقرأ القرآن. وما المظاهرات التي تجتاح المعمورة حين يهاجم أحدهم القرآن إلا دليل على تعظيم القرآن في قلوب المسلمين ومعرفتهم اليقينية أنه كلام الله إليهم.
لكن يبقى استحضار القلب هو مفتاح التدبر الأصعب. فاستحضار القلب هو مغزى كل عمل ناجح، ويقصد بذلك التركيز على هذا العمل دون الالتفات إلى سواه. وفي زحمة المشاغل اليومية فإن عملية استحضار القلب تبدو شبه مستحيلة، إلا أن ما يساعد عليها هو فهم كُنه العمل الذي سيقبل المرء عليه. ونضرب على ذلك مثالاً حياً من واقعنا المعاش.
فجراح الدماغ لا بد له من استحضار قلبه قبل الدخول في عملية معقدة على دماغ مريضه، ويتم ذلك بتحديد توقيت العملية الذي لا يتخلف عنه، ثم مراجعة ملف المريض الذي سيجري له العملية، ثم الانقطاع عن العالم الخارجي قبل الشروع بالعملية، فلا هواتف ولا وسائل تواصل اجتماعي ولا غير ذلك من مشتتات الذهن، بل تركيز كامل على العملية، فهو حق المريض على الطبيب، وحق الطبيب على نفسه.
ثم الدخول في العملية الذي يستلزم الآن أعلى درجات استحضار القلب والذهن.
هنا لابد من الإشارة إلى شيء مهم في هذا الاستحضار، وهو أن أي طبيب يجري عملية مهما كانت بسيطة، وكان قد أجراها مئات بل آلاف المرات، إلا أن كل عملية جديدة يجريها لابد ستترك لديه اندهاشاً هنا وتأملاً هناك. تماماً مثل الدخول إلى Museum وهو الذي ترجمه العرب خطأً لكلمة "متحف"، بينما أصل الكلمة هي Muse وتعني التأمل، ومنها Amuse وتعني الاندهاش، فتكون بذلك الترجمة الصحيحة لكلمة Museum المُؤمِّل المُدهِش، أي الذي يجعلك تتأمل محتوياته باندهاش ولو دخلته ألف مرة.
هذا حال الطبيب الذي يجري عملية يتأمل مراحلها باندهاش رغم أن أداءه وإجراءه لتلك المراحل عمليات انعكاسية سريعة لا يفكر بها كثيراً تشابه إلى حد ما عملية فتح المصحف، ثم تقليب أوراقه أثناء تلاوته. فتكون عملية استحضار القلب لتدبره هي ملاحظة أن القرآن مؤمل مدهش، ولو قرأه المرء ألف مرة مثل أي عملية طبية يجريها الطبيب، ومثل زيارة المتحف ترى فيها عِبرة هنا، وتاريخاً هناك، وقصة في زاوية، وحكمة في أخرى، تتغير هذه العبر والحكم حسب المتحف المزار.
القرآن كذلك إلا أن فيه كل ما يدهش ويدعو الإنسان للتأمل، وليس يقتصر على ناحية دون أخرى. ففيه قصص من قبلنا وقصص أنفسنا وتاريخنا، وقصص ما سيأتي بعد انقضاء آجالنا، وأرفع من ذلك كله هو تعريف الله لنا لذاته وأسمائه وصفاته في كل سطر من سطور كتابه، ثم ارتباط ذلك كله بتفاصيل حياتنا اليومية الروتينية، فتبعث الروح فيها من جديد، فتغدو حياة مدهشة تعين على أنواء الطريق.
هذا ما أهملناه حين جعلنا القرآن متحفاً بالمعنى الحقيقي، أي تحفة نعلقها على الجدران فيتراكم عليها الغبار، بدل أن يكون عملية يومية تدعونا دوماً للتأمل والاندهاش.
ما أَمَلَّ حياة لا دهشة فيها!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.