كعادته، جرس الهاتف لا يرنُّ بشكل مختلف إلا في أوقات الذروة.. هي ريبة شعرت بها في أثناء انغماسي بدراستي وقد دخلت مرحلة حرجة ووصلت إلى خواتيمها.. هل أردُّ؟!
كانت يدي أسرع إلى الهاتف من عقلي..
– نعم، من معي؟!
– نريد لقاءك، هل وقتك يسمح بذلك؟
– دون تردُّد: نعم يسمح، تفضلوا..
بعدها، دخل بيتي شابان في بداية العشرينات، نحيلَي الجسد، يرتدي كل منهما بنطالاً قصيراً فوق الركبة، وتبدو عليهما علامات الإجهاد، وفي الوقت ذاته لمحت في عينيهما أمارات العزيمة والجدية.
قالا بحماسة كمن يتحدى الواقف أمامهما:
نريد مساعدتك، نريدك أن ترشدنا كيف نتخلص من إدماننا، لقد اكتفينا مما نحن فيه، لقد ضللنا الطريق، لقد أضعنا حياتنا.. فهل إلى خروجٍ من سبيل؟!
ثم أخذا يقصّان عليَّ مأساتهما، وعلاقتهما المتهالكة مع أهلهما، لقد كانا يشعران بالكثير من اليأس، والحزن، وبعضٍ من الغضب، كانت أرواحهما تصرخ في أرجاء الغرفة.. لقد سمعت صدى صراخهما في داخلي.
كنت منصتاً باهتمام لهما، لم أتدخل في كلامهما إلا من أجل الحصول على المزيد من المعلومات والمزيد من الشروحات، والمزيد من الأحاسيس، والمزيد من روحهما المعذَّبة.
قلت لهما إن أول تصحيح للمسار قد بدأ، إنكما في أول الطريق الصحيح الآن.. هل تظنانِ أنكما أتعس أهل الأرض وأشقاهم، وأنكما أكثر أهل الأرض بلاءً؟ هل تظنانِ أن حياتكما انهارت؟!
لا.. بالتأكيد لا.. كل ابن آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون، مهما فعلتما، مهما اقترفتما من آثام ومعاصٍ، مهما أجرمتما فإنكما قد دخلتما على رب رحيم، رب يغفر الذنوب جميعاً.. هل تريدان البدء من جديد؟! هل تريدان طي الصفحة الماضية؟ لقد بدأ ذلك منذ الآن
ثم سألتهما: كيف تريان نفسيكما؟! أجاب أحدهما بأنه لا يستطيع النظر إلى وجهه في المرآة؛ لأنه يحتقر نفسه، وقال الآخر إنه نكرة لا فائدة منه.
قلت لهما: هل تعرفان ماذا يقول الله فيكما؟! إنه يقول: "ولقد كرَّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر".. هل تعرفان ما قيمتكما في الحياة؟ إنكما خلفاء الله في أرضه، أنتما ممثِّلا الله في أرضه، لقد استحفظكما عليها.. كونا كذلك، لستما أول من أخطأ ولا آخر من عصى.. اجعلا كل ما مررتما به تجارب حية تستفيدان منها.. فكِّرا في المستقبل المشرق أمامكما.
يكذب من يقول إن الحياة سهلة، الحياة ليست كذلك، إنها تحتاج منكما الصبر والمصابرة، والجد والمثابرة.. كونا قويَّين، وتأكَّدا أن كل ما تمران به من توتر هو جزء من تطوركما، وجزء من نضجكما في الحياة.
وبعد حوارات مطوَّلة، اتفقنا على خطة عمل وأولويات للتنفيذ، وآمال المستقبل وطموحات الغد.
لا يبهرني شيء أكثر من رقّة روح العصاة والمدمنين والمنحرفين حينما يشعرون بالألم.. يا الله، سبحانك! إن كُنتُ -وأنا العبد الضعيف- شعرت بكل ذلك وأشفقت عليهما.. فيا من هو أعلم بهما وأرأفُ بحالهما ارزقهما توبة نصوحاً، واجعلهما من عبادك الصالحين.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.