لماذا ترتد الشعوب؟

عربي بوست
تم النشر: 2019/01/22 الساعة 15:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/01/22 الساعة 15:30 بتوقيت غرينتش
الثورات العربية / iStock

قد لا يُكتب للأفكار الجديدة الاستقرار في المجتمعات من المحاولة الأولى، وقد يرحب بها الشعب في أوقات ثم يتمرد عليها، هذه الظاهرة ليست بدعاً في حياة الشعوب، ولا تخص فقط المنطقة العربية، ولكنها مرتبطة بالسلوك البشري تجاه الأفكار الجديدة، فلماذا ترتد الشعوب؟ وهل هي ردة لا تراجع عنها؟

يساعدنا جوستاف لوبون في إجابة هذا السؤال. فقد ذكر في كتابه سيكولوجية الجماهير أن لدى الجماهير طبقتين من الأفكار، طبقة راسخة مستقرة كالتي نشأت عليها دينياً أو اجتماعياً أو سياسياً، وهي ما وجدت عليها آباءها، وطبقة جديدة هشة تطفو فوقها، وفيها الأفكار الجديدة التي يبشر بها رواد التغيير.

وكما تنتصر الجماهير للأفكار الراسخة، يمكن كذلك أن تُجيَّش وتنتصر للأفكار الجديدة بحسب تأثير المحرض الذي تتعرض له، هذا المحرض الذي يمكن أن يكون وسيلة إعلامية أو زعامة أو حدثاً كبيراً.

فالثورة إن نجحت في بعض أشواطها يؤيدها الكثيرون ويتبنون خطابها حتى لو لم يستقر داخلهم، لأن تأثيرها كبير في توجيه السلوك، رغم أن خطابها ينتمي للطبقة الهشة الجديدة من أفكار الجماهير لا الطبقة الراسخة القديمة. وإن انتكست أو لم تحقق سريعاً ما كان يتمناه الشعب عاد إلى طبقة الأفكار الراسخة، صارخاً في كل من يحدثه عن التغيير "أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا".

وإذا تتبعنا هذا السلوك المتأرجح لن نجده مقتصراً على عامة الشعب، فالقوى الليبرالية الداعية للديمقراطية قد تنتكس مؤيدة قرارات ديكتاتورية لتنتصر في النهاية لأفكار المنشأ لا أفكارها المتقدمة، والقوى الإسلامية التي اقتنعت بالديمقراطية كنظام لا يخالف الإسلام، قد تتراجع في وقت الأزمات إلى أشد الأفكار تطرفاً ورسوخاً في عقلها.

فالقابلية للردة والانقلاب على الأفكار الجديدة واردة لدى الشعب وقوى التغيير معاً. وهو جدل دائم بين الأفكار الراسخة وأفكار السطح.

يمكن لهذه النظرة أن تساعدنا في فهم حركة الشعوب وتفك بعض طلاسمها، كما تحدد إحدى المهام الأساسية لعشاق التغيير، وهي بناء تلك الطبقة السطحية من الأفكار الجديدة، هم يعرفون أنها لن تتمكن من الناس، فهي طبقة سطحية تحت الاختبار أكثر منها اقتناعات حقيقية.

كما يدركون أن الشعوب قد ترفع أعلام الحرية لكنها لا تدافع عنها، لأنها قد تنتصر بشكل مؤقت لطبقة الأفكار الهشة مثل الحريات، ثم تعود لأفكارها الراسخة. ولن يتعجب الثائر من تراجع الشعوب، وما سيشغله هو كيفية تقليل عمق الردة المحتمل من خلال قرارات أكثر نضجاً.

فعادة ما ينظر الثائر لأثر قرارته على النظام، لكنه ربما يغفل عن أثرها على وعي المجتمع، هل ستغذي أفكار السطح الجديدة أم الأفكار الراسخة العتيقة؟! هل ستقود للتمسك بالجديد أم الردة للقديم؟

إن معنى الردة أو الفتنة السياسية أن تقود ممارسات قوى التغيير المجتمع للتمسك بأفكاره القديمة الراسخة بعد أن كان يُظن أنه أفلت منها.

لذلك تتحسس قوى التغيير من الفشل لأنه مقترن بالردة، فتختار معاركها ولا تدخل معركة لا يمكن الخروج منها، أو تحرق الأرض من تحتها.

ولكنها تختبر بحذر المزاج الشعبي وانحيازه اللحظي، هل للأفكار الراسخة أم الجديدة؟! فالأفكار الجديدة لا يهددها فقط بأس السلطة وتأثيرها على الناس، ولكن رعونة قوى التغيير وقراراتها الحمقاء.

يخطئ العقل الثوري حين يتصور أن السلوك الشعبي ينطلق من نفس منطلقاته، فالعقل الثوري يؤمن بحلم لم يأت، وينطلق بحماس بالغ نحو أفكار لم يختبرها الواقع بعد، في حين يعتبر السلوك الشعبي تلك الأفكار متطفلة، ويرقب حركتها بحذر دون عاطفة نحوها.

لن يتغير وعي المجتمعات فقط بحدث ثوري خاطف، فنتوقع أن تحل الأفكار الجديدة محل الأفكار الراسخة دفعة واحدة، فهذا وعي لحظي مؤقت، تماماً كالوعي بإمكانية الفعل الذي تجده يتبدد مع الهزائم، أو الوعي بأننا شعب عظيم أذهل العالم، ثم التحول تماماً للحديث عن أننا أحط شعب، هذا نموذج للوعي اللحظي المضطرب يصيب حتى المؤمنين بالتغيير.

إن الفعل الثوري أو الحدث المزلزل يعطي سُمكاً أكبر لطبقة السطح الجديدة، ويحتل مساحة ولو صغيرة في ذاكرة الشعوب، لتتسع شيئاً فشيئاً مع كل محاولة تغيير ناجحة. فإذا هدأت الموجة الثورية انشغل رواد التغيير بالحفاظ على تلك الطبقة الهشة من الأفكار الجديدة، فيلحون عليها بكل الوسائل الممكنة من فنون وأدب وإعلام وأنشطة اجتماعية وسياسية إلخ، كما تتثبت قوى التغيير نفسها من أفكارها الجديدة، وتتدارسها وتنتقدها وتعمقها. كل هذه مجالات عمل أثناء انتظار وثبة ثورية جديدة.

هذه النظرة تعطي الأمل بأن الجماهير ستستدعي أفكار التغيير يوماً ما كما فعلت من قبل، فليس لديها موقف مبدئي من أي اقتراح، ولكنها في حالة تأرجح تحت تأثير الدعاية ومخاوفها.

كل المطلوب أن نلح على أفكارنا ونزج بها في كل مشهد، ونتخذ مواقفنا بناء عليها فلا نتنكر لها مع أول منعطف، أن نجعلها حديث الناس حتى ولو بالرفض، فتصبح مفرداتها متداولة في حياتهم.

دورنا أن نكدر صفو نهر الأفكار الراسخة ولو بالسخرية والفكاهة، ونتأكد يومياً أن طبقة الأفكار الجديدة لم تذب فيه، أن نسمع أنفاسها، ونرقب الحدث الذي سيمنحها قوة ويكسبها عمقاً جديداً في المجتمع.

ويأتي جيل جديد، لديه أيضاً أفكار راسخة بحكم التنشئة، لكنها ليست كتلك التي كانت لدينا، هي مزيج بين القديم والجديد بحسب محصلة المعارك التي سبقته والتسوية التي وصلت إليها، فسلطان القديم أخف وطأة، وتبدو فرص إحلال الجديد أكبر، فيخوض الجيل بدوره معاركه لتثبيت الأفكار الجديدة، ما بين وثبات ثورية وأخرى ترعى الطبقة الجديدة من الأفكار وتزيد سمكها.

ثم يتلوه جيل جديد، أفكاره الراسخة هي تلك التي كنا نبشر بها، أما أفكاره الجديدة التي تطفو على السطح، فالله وحده يعلم ماذا ستكون.

 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

وائل عادل
مهتم بعلوم وفنون التغيير السياسي
تحميل المزيد