المقابلة هي أشهر وسائل جمع المعلومات المطبقة "إكلينيكياً" عيادياً بين المعالج النفسي والحالة المرَضية أو الطالب للتشخيص أو استشارة نفسية.
تعتمد المقابلة في حصدها المعلومات على أسلوب التداعي الحر، الذي يسمح للحالة بالكلام والجرأة عليه، سواء كانت المقابلة مقننة (محكومة ببنود حوار المقابلة) أو شبه مقننة أو مفتوحة. وللوصول إلى درجة سليمة من التداعي الحُر، فإن المقابلة يجب أن تطبَّق بمراعاة شروط احترام الحالة وإشعاره بذاته، وطمأنته للمكان والزمان مِن حوله، والوصول معه إلى أنه ليس وحده فالجميع يدعمه، وأنه قادر على تجاوُز محنته التي تظهر في سلوكه، وأن ما يسرده للمعالج في مصلحته.
وهذا التلخيص وإن كان مبسطاً فإنه كافٍ لايضاح الفارق بين المقابلة الأكثر دعماً "السابق ذكرها" والأخرى الأكثر انتهاكاً بجهاز أمن الدولة، ففكرة التداعي الحُر تم انتهاكها جبرياً بالتعذيب والكهرباء وتعرية جسدك تماماً وعصب عينيك، فأنت لا تمتلك حرية التداعي، كما أنك فجأةً الشخص المنبوذ المتهم الذي لا قيمة له ولذاته وإنسانيته، والذي يدفعه الخوف حد الهلع إلى مسايرة الادعاء على نفسه والآخرين وصولاً إلى بُعدٍ لحظي عن تعذيب مستمر طويل، فمزحة "أنا اللي قتلت السادات" ليست بالمزحة خلف أسوار أمن الدولة. تتفق المقابلة الإكلينيكية مع مقابلة أمن الدولة في أن كلتيهما لن تخرج منها كما دخلتها أبداً. فالمقابلة الإكلينيكية تخرج منها بحثاً عن السواء والهدوء والنجاح، في حين أن مقابلة أمن الدولة تنشد في أثنائها الاعتقال المشدد، طلباً للخلاص، وبعدها قد تبحث عن الجنون طلباً للراحة.
جميعنا في السجن نشعر بأننا بخير، إلا من فاض به صبره وقدرته، لكننا ومع ذلك نتعامل معاً بشبه حذر يقيني من أنه ربما هناك خلل ما، إن لم يظهر في السلوك فربما كان باعتناق الأفكار.
تختلف مدرسة التحليل النفسي عن المدرسة السلوكية في النظر إلى الصراع الفعلي، فتراه مدرسة التحليل النفسي مثيراً مختلف الشدة يحفز الصراع الحقيقي الطفولي، في حين تراه السلوكية أس المشكلة؛ ومن ثم فإن الاضطراب السلوكي عرَض عند التحليل ومرض عند السلوكية.
ربما الخلاف بين المدرستين له ما يبرره، إلا أنني أجدني أميل إلى المدرسة التوافقية في النظرة المتكاملة، والتي أضيف من خلالها إلى مدرستَي التحليل والسلوكية، المدرسة المعرفية في تحليل سيكولوجية السجين في أثناء وبعد تجربة الصراع الفعلي بأمن الدولة.
فإن كان السلوك يشكَّل بالأساس في مرحلتي الطفولة والمراهقة كما يراه التحليل، مع مراعاة الفروق الفردية الكمية في درجة تعاملها مع الصراع الفعلي كمثير، فإننا قابلنا العديد من الحالات التي يمكن الاستدلال بها على النكوص إلى الطفولة المبكرة، فبعضهم ظل يصرخ على أمه في أثناء التعذيب بأمن الدولة كالطفل الواقع غي ورطة ما.
وهذا الذي عاودته سلوكيات مص الأصابع وقضم الأظافر كالنكوص إلى مرحلة الطفل الرضيع، وكذلك اضطرابات عدم التوحد مع الأب، والتدليل الزائد أو التعنت الشديد بالتربية والذي يسهل ظهوره في سلوكيات الرجال المسجونين بينهم وبين بعض، بصورة طفلية مرَضية.
بينما يمكن أن يستدل على الخلل من الناحية السلوكية كما يظهر في شخص كان شديد الخجل حوّلته تعرية أمن الدولة إلى شخص عديم الحياء، فهذا وإن كان قد تعرض لأسلوب تربية خاطئ بالطفولة، فإن ما به من اضطراب يسهل ضبطه من خلال تعلم وتعزيز معايير الحياء بالسلوك من خلال التدريب، لأنه أيضاً قد يكون يعاقب نفسه ومن حوله بتجاوز الحياء، لأن الواقع قد انتهك شخصه وجسده، سواء بأساليب التعرية أو الانتهاكات الجنسية الأخرى.
وأخيراً، أُشير إلى المدرسة المعرفية التي تظهر بآثار الهلع الشديد للصراع الفعلي في أمن الدولة على المساجين، فبعضهم من اعتنق الأفكار التكفيرية الانتقامية التي تشمل الجميع ممن لم يغيروا الواقع أو قُل تركوه يسمح بانتهاك إنسانيته، وبعضهم قرر أن يبحث عن حائط يسير بداخله، وقليلون فقط من لم تتغير أفكارهم أو تنحرف قليلاً، فكما قلنا إن للقدرات العقلية والعصبية فروقاً فردية كمية، فأيضاً الأفكار بينها فروق فردية، وبعضها لا يمكن انتهاكه أبداً، ولو بآلاف أجهزة أمن الدولة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.