وكم من أب حطّم أحلام أبنائه!

عربي بوست
تم النشر: 2019/01/21 الساعة 14:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/01/21 الساعة 14:25 بتوقيت غرينتش
وكم من أب حطّم أحلام أبنائه! / iStock

يُولد الإنسان ويعيش طفولته دون أحلام تؤرقه أو تتعب كاهله، ومع مرور الوقت يشتد الساعد ويخشوشن العظم وتتسع مساحة التفكير، فتنفتح الآفاق على العالم الخارجي، ومعه تولد الأحلام التي يتمناها الفرد ويسعى لتحقيقها بعد حين أو بعد سنوات وسنوات من وضع أول لبنة لها، يبني الإنسان الآمال ويضع المخططات ويرسم الطريق لذلك، فيخطو الخطوات لتحقيقها والتي قد تكون سهلة حيناً وصعبة بوجود عوائق ومطبات مختلفة باختلاف الأسباب أحياناً أخرى.

 

ينشأ الفرد فينا ويكون ابن مجتمعه وابن أسرته، التي قد تكون دافعاً قوياً لتحقيق أفرادها للأحلام، أو قد تكون هدامة في نفس الوقت باختلاف الدوافع لذلك، عادات وتقاليد، قيم بنيت عليها الأسرة، اختلاف في الأفكار وغيرها أسباب أخرى تكون عائقاً لتحقيق أحلام الأفراد داخلها.

 

في كثير من الأسر قد يأخذ الآباء في أحيان كثيرة زمام المبادرة واتخاذ القرار في تحديد مصير الأبناء، سواء باستشارة أو من دونها، رغم أن بعضهم لا تهمّه الأولى ولا يعيرها أي اهتمام رغم استعمالها، وكأنها أداء لواجب فقط وديمقراطية مغلفة بديكتاتورية لا غير، وليس لها أهمية كالثانية بالضبط، قد يبدو العنوان ويظهر لكثيرين وكأنه مركز على الجانب المعروف في مثل هذه المواضيع والمواقف، وهو موضوع الدراسة التي غالباً ما تكون محل الجدل الكبير بين الآباء والأبناء، إن لم نقل إنه مسألة الجدل الوحيدة غالباً عند كثير من الأسر في اختيار التخصصات التي يحبذون دراستها مستقبلاً، وهي مسألة جدلية متشعبة، وتبقى الآراء الشخصية الفيصل فيها حسب المتخصصين، كل حسب البيئة والأسرة التي يعيش بها، ولكن وفي بعض الأسر الأخرى أيضاً تبقى أكبر من ذلك بكثير، حيث يكون فيها القرار حكراً على الآباء دون الأبناء في باقي مسائل الحياة المختلفة، فلا يعرف الابن معنى الاستقلالية في اتخاذ القرار أبداً منذ وعيه، فلا يختار طريقة عيش حياته ولا تخصص دراسته ولا حتى زواجه، وفي بعض الأسر لا تقرر الابنة شيئاً، لا إكمال دراستها ولا اختيار زوجها ولا غيرهما خيارات إن صحت تسميتها بذلك.

قال تعالى في كتابه الكريم: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْن إِحْسَاناً"،  وقال أيضاً: "وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً"، آيات من الذكر الكريم افتتح بها محمد كلامه بعد تنهيدة عظمى قاصّاً على جمع كريم جالس يتجاذب أطراف الحديث حكاية أسرته وملخصاً حالها واضعاً إسقاطاً على كثير الأسر مثلها أيضاً، فيشكو وضعه وإخوته من أب بلغ من الكبر عتياً لا زال يؤرق عيشتهم، ويضيف لمرارة ماضيهم مرارة مستقبلية، تجعل نار غضبه مؤججة والرغبات في القصاص من والده مشتعلة، قبل أن يهدأ قليلاً ويردد قول الله تعالى: "وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً".

أحمد أبومحمد شيخ كبير طاعن في السن، يغلب اللون الأبيض على شعره الذي يتواجد به بعض سواد لا يتجاوز عدد الأصابع، لامس أحمد وبلغ عقده التاسع من العمر تقريباً، كان مجاهداً كغيره كثير ممن كانوا حماة للوطن يوماً ما، رغم أن البعض منهم ادعى ذلك فقط بعد حين، تزوج في منتصف العقد الثالث من العمر من آمنة قريبته الجميلة التي تصغره بسنوات كثيرة والتي يسكن معها في القرية نفسها، لم يكن زواجاً عن حب ككثير من الزيجات الأخرى في زمان مضى أيضاً، أنجبت آمنة من أحمد ما بين ثلاثة عقود ثلاث بنات ومثلهم صِبية، وفقدا ثلاثة آخرين أيضاً ما بين مرض وإهمال وغيرهما بتفاصيل عدة دقيقة تجنّب محمد ذكرها.

عاش الكل حياة عادية كغيرهم من أطفال ذلك الزمان، فلم يتغير نمط العيش بين أول العنقود حليمة أو آخره محمد أو ما بينهما هند، فهد، مصطفى، وفاتن، نفس روتين العيش رغم تغير نمط الحياة من جيل إلى جيل، ربما بعض التغير الطفيف فقط الذي لا يستحق الذكر حتى، كان أحمد أحد كبار أثرياء المنطقة وسادتها وكبير قادتها، صاحب الكلمة المسموعة الذي لا يعلو صوت فوق صوته، سواء كان في المنطقة عموماً أو داخل منزله خصوصاً، نفس تعامل الخارج يكون في الداخل، فأسلوب الحديث كله أوامر غالباً، كبر الأبناء كل بوقته لكن الجامع بينهم أنهم لم يختاروا مصيرهم كغيرهم كثير من أبناء جيلهم، عُرف عن حليمة التي كانت سيدة البيت الأولى بعد أمها أنها الأكثر نشاطاً وحركة، وأنها شديدة الذكاء خلال حديثها، وأسلوب ردها، وسرعة استيعابها واستجابتها، وهو ما جعل كثيراً من معلمي القرية الصغيرة يترجى أحمد إدخالها الكُتاب أو المدرسة، وباءت محاولاتهم كلها بالفشل أمام تعنت أحمد ورغبته في دفنها داخل المنزل أو تزويجها لأول طارقي الباب بعد سنوات يوماً ما، وهو ما كان حقاً فكان ذلك مصيرها بعد حين.

 

هند وفاتن كانتا في سن قريبة، دخلتا الكتاب معاً ثم المدرسة توالياً، قبل أن يوقفهما أحمد عن إتمام مزاولتها رغم الحصول على علامات ممتازة خولتهما تصدر قائمة المتفوقين من تلاميذ القرية والمنطقة عموماً في الابتدائي، وبالحجة البالية الرثة نفسها أن الفتاة خلقت لتعلم القراءة والكتابة فقط لا غير ذلك، ويتوقف تحصيلها العلمي عندهما لا غير، أعقب توقيفهما رجاء آخر من معلمي القرية أن لا يحرمهما حلمهما بلبس كمامة الطبيب يوماً ما، لإجراء عمليات للمرضى وإنقاذ الأرواح وغيره ذلك من أفعال خيرة لمهنة مقدسة، لكنه أبى إلا أن يصنع لحلمهما كفناً أبيض يدفنه فيه مبتلاً بدموعهما الكثيرة لسنوات تتلوها سنوات، ليتغير الكفن الأبيض ويصبح فستاناً لهند بزيجة مُرة تدفع ثمنها غالياً يوماً بعد يوم قد يختمه الطلاق قريباً، في حين تبقى فاتن مرمية عنده بين كتب الدراسة عن بعد المرمية هنا وهناك تبحث فيها عن حلم ضائع منذ سنوات.

لم يكن حال البنين أقل سوءاً من حال البنات توقف فهد ومصطفى عن مزاولة الدراسة بضغوط شديدة رغم تفوقهما، دون ضمان للمستقبل بأية مهنة كانت، تزوج الأول في سن متأخرة ولحقه الثاني كذلك، يأبى أحمد أن يتركه فهد، في حين خرج مصطفى تحت ضغوط والده، والتي جعلت الفتنة بينهما تتأجج، صانعاً هوة عظمى بينهما وخلافاً شديداً دام ويدوم لسنوات، وفي الوقت الذي يعيش فيه الأول تحت جناحه مرغماً، يعيش الثاني تحت خط الفقر رغم غنى والده، أما محمد فالوحيد الذي أنقذته الحياة وأسعفته الظروف ليعيش مع خاله بعض السنوات أنفذت دراسته، التي أكملها بكثير من الديون أثقلت كاهله لسنوات عديدة.

قصة محمد تضرب مثالاً لحال كثير من العائلات يعيش فيها الأب ديكتاتوراً، لا يعير اهتماماً لأيٍّ من أبنائه ولا لرغباتهم أو مستقبلهم لحاجة في نفسه، تحطم أحلامهم وترميهم في غياهب جُب الألم بعيداً عن الأمل.

وصدق من قال: وكم من أب حطّم أحلام أبنائه!

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
يونس جعادي‎
‏مدون وصحفي رياضي
تحميل المزيد