ماذا لو كان اليوم يومك الأخير؟

عربي بوست
تم النشر: 2019/01/20 الساعة 15:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/01/20 الساعة 15:28 بتوقيت غرينتش
ماذا لو كان هذا اليوم يومك الأخير ما الذي ستفعله؟

لا يوجد إنسان على وجه الأرض لا يخافُ فكرة الموت. هذا الشعور فطرة فينا، لا نستطيع إخفاءه أبداً مهما بلغ الإنسان من قوة إيمان. نعلم أن الموت حقٌّ وأن الساعة لا ريب فيها؛ ورغم ذلك نتشبّث بالحياة لآخر رمقٍ. فغريزة حبّ البقاء متأصّلة فينا نحن البشر.

إذاً ماذا لو كان هذا اليوم يومك الأخير؟ ماذا لو كنت تعرف مسبقاً أنك اليوم ستُقبض؟ كيف ستتعامل مع يومك الأخير هذا، وما الذي ستقوم به قبل توديع حياتك إلى الأبد؟!

عن نفسي فكّرتُ في الأمر مليّاً وأخذتُ الأمر على محمل الجِدّ، ثم روضتُ باطني حدّ الاقتناع أن اليوم يومي الأخير. وبالرغم من أنّه مجرّد تحدٍّ، إلا أنّ الخوف ما انفكّ يتوغّل. كنتُ خائفة جداً، ماذا لو انقلب السّحر على السّاحر؟! وأصبح التحدي حقيقة حتميّة؟ إلا أنّني أكملتُ التحدي وأخذتُ ورقةً وقلماً وكتبتُ الأشياء التي أريد فعلها قبل توديعي العالم.

في البداية جلستُ مع نفسي جلسة القاضي والمتّهم. كنتُ أحاسِبُ نفسي على أمورٍ عدّة ليست بالكثيرة، عن الخطأ وقت الصواب، وعن أقلّ التّفاصيل التي غيّرتُها دونما تريّث. ثم إنني أكلتُ جميع الأطعمة التي أحبّ، ولم أنسَ كوب القهوة الدافئ ذاك.

أغمضتُ عينيّ ورُحتُ أسافر بخيالي هُنا وهُناك في أرض الله الواسعة. لتلك الحضارة الجميلة المشبّعة بالعلم والثقافة والعلوم. جلتُ العالمَ أجمع في لحظة خيالٍ واحدة. وبعدها جلستُ بجانب أمي وتنفّستُ عطرها وتأمّلتُ أدق ما فيها، تلك التجاعيد وابتسامتها التي كادت تخلو مِن الأسنان. تأمّلتُ يديها الحنونتين وعينيها العميقتين. أمي الاستثناء وجميع المتناقضات. لقد كنتُ أشاهد نفسي فيها رغم الاختلاف. تلك التفاصيل التي تجمعنا، صمتها دوماً فيه رسائل، ضجيجها الموحّد، كبرياؤها وأنفتها، جمالها البسيط اللذيذ، ذكاؤها ولينها الداخلي وتصلبها. لقد كنتُ أرى عناد تلك الأنثى ورقّتها في آن. كلمتها التي لا ترجعها في حلقها، اعتذارها لو أخطأت. لكن شاهدتُ أيضاً الصّعب وإخفاء الحنان، الصراحة وعلاقتي العمودية معها. شكّ أنها ليست أمي وقولي "لا" حين كانت تنتظر "نعم". لم تدرك يوماً تمرّدي ولم تفهمني إلا مؤخراً بعدما كاد الأوان يفوت. أخذت منها الجميل وتركتُ القسوة. 

أمّا أبي، صديق الطفولة، الرجل الحديدي الرائع، فوق القيمة التي أخذتُ منه الكلّ ولم أترك شيئاً. حبيبي الذي ولدتُ من ضلعه. أبي اليتيم، المثقف النّاجح، الذي قست عليه الحياة. المتمرّد والمحبّ للمغامرة. الرّجل الذي عايش الفقر لكنه لم يكسره، وذاق المرّ قبل الحلو ولكنه وصل. كلّ الكلمات لا تنصف أبي، ورغم ذلك لم أترك شيئاً إلا وعبّرتُ عنه، ولكنّ الكلمات لا تسعفني خاصّة إن كانت من القلب إلى القلب، بل تبعثُ فينا الصّمت الذي يترجم أكثر بكثير من عبارات قد نكتبها رغم أنها تبقى محفورة في الذاكرة، ولكن هناك الأهم الذي نسكتُ عنه فيبقى سراً لنا ولنا نحن فقط. 

 

لم أنسَ التعبير لأصدقائي، هم مني وأنا منهم. هم البعيدون عن عيني، الجالسون في قلبي الذي يحبّهم بشدّة. هم عائلتي أيضاً، لا بل هم نصفي الآخر، هم الشمس التي تُنير لي الطريق، الباعثون الأمل والسكينة فيّ.

إخوتي السبعة، عصفورتي وأختي البكر التي تراني الآن من السماء لا بل هي ملاكٌ في السماء، تلك التي أراها بقلبي والذاكرة. منزلنا الذي كان قليل الأثاث وكثير الكتب، ذكرياتنا التي تجمعنا في كل ركن منه. صراخنا وعراكنا والكرتون الذي نُحبّ. 

ما أجمل الطفولة رغم القِلة فيها، وما أتعس الكبر الذي يفتت تلك الطفولة، فكل منّا في مكان، لا نلتقي إلا في المناسبات، وحتى المناسبات لم يبقَ لها طعم كالسابق، بل باتت سراباً يتناثر وكأنّه غبار الشمس. 

لم أنسَ جبريل الذي علمني "اقرأ"، وجبريل هنا أستاذي ومعلمي الذي أرشدني إلى المعرفة. ذاك الذي فتح لنا بصيرتنا وفتح لنا باب نور العقل لنكسر صنم الجهل الذي فينا.

ثم كتبتُ رسالة لكل الأشياء التي شكلتني، إلى الخيال والكتب ورائحة القهوة عند الصباح وعند الليل. لتلك المشاعر النبيلة والقاسية التي لا تُنسى أبداً. لأول دموع العشق والنّجاح والفشل والغرق فالنجاة. 

كتبتُ لهذا العالم المُسنّ الذي أرهقته الحروب، ولبكاء المُشرّدين وسط عالم ظالم، لذاك الظالم الذي أرهق الوطن وأرهقنا. 

 

كتبتُ للفصول جميعاً ولروايتي "بروكاست" التي لم تنتهِ، كتبتُ للسجين المحرّر البطل، للكادحين ألف تحية، للحاضر والمستقبل. وأخيراً وليس آخراً كتبتُ إلى الله رسالة أحملها معي، كتبتُ فيها الكثير الذي سيبقى بين العبد وربه.

كتبتُ للشيطان الذي كان شرّي غير المعلن، الذي أقوم بلعنه كل يوم. وكتبتُ للملائكة التي كانت الخير في داخلي أيضاً، والتي سيطرت على حياتي ولم تجعل لذاك الشيطان مكاناً. 

إلى يومي الأخير، كل ما فيه من هدوء كان يخيفني فعلاً، فأنا لا أريد الموت الآن. مازال أمامي الكثير الذي لم أنجزه، مازلتُ غير جاهزة للوقوف أمام الله. ولأنّ أعمالي الآن ليست جاهزة لمواجهة قبري، فالرسول ﷺ يقول: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، وأنا لم أحقق أيّاً من هذه الأمور الثلاثة وأريد تحقيقها. 

نحن منذ البداية، منذ الخلق، كنا نرى مفهوميْن متضادّين للموت والحياة. رغم فهمنا للحياة تبقى دوماً مبهة لنا. ولكنّ الموت ليس كالحياة أبداً، يأتي لنا مبهماً ويبقى كذلك. إنّ الموت بمثابة الأسئلة التي لا إجابة واضحة عنها.

خُلق الموتُ مع الإنسان ويستطيع أخذه وقتما شاء عكس الحياة، فنحن من نستطيع أخذها متى نريد.

يموت الموتُ لنعيش نحن، لأجل هو من يقرره عنا. نحن نُقبض واللهُ يقبض الموت، وتلك معجزة الحياة الكبرى. 

كانت تجربة مخيفة، أردتُ التّوسّع فيها أكثر، وخاصة أنها مسألة فلسفية صرفة، لكنّ شعور التحدي هذا ممتع، وكان أمامي خيار وهو العيش لأفعل ما لم أفعله، ثم حين يأتي الموت لا بأس في ذلك، بل البؤس أن يموت الإنسان دون أن يفعل شيئاً. فيوم واحد ليس كافياً لتفعل فيه كل ما تريده. 

ماذا لو كان هذا اليوم يومك الأخير ما الذي ستفعله؟ جرّب ثم قل لنا تجربتك.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
مروى عبد الرزاق
كاتبة تونسية
مروى عبدالرزاق، أدرس بكالوريا آداب علوم إنسانية مشروع صحافة. مهتمة بالقضايا الإنسانية وأميل للسياسة والدفاع عن الكادحين، شغوفة بالمطالعة والكتابة، وعن قريب ستكون لي رواية
تحميل المزيد