أبصرت بطلة تدوينة هذا الأسبوع النور في يوم خريفي بارد من أيام العاصمة البولندية وارسو، وبالضبط في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني 1867، في وقت كانت فيه بولندا واقعة تحت سيطرة الإمبراطورية الروسية. اسمها ماريا سكوودوفسكا، الابنة الصغرى ضمن 5 أطفال لأب يشتغل معلماً للرياضيات والفيزياء، وأم تعمل مديرة لمدرسة داخلية.
لم تكد ماريا تكمل عامها الثاني عشر حتى فجعت بوفاة والدتها متأثرة بإصابتها بالدرن، ثم صُدمت برحيل شقيقتها المريضة بالتيفود بعد عامين فقط، فشكّل ذلك منعطفاً رئيسياً في نظرة ماريا للحياة.
بالإضافة إلى موت الأم والأخت، وجدت ماريا نفسها أمام واقع صعب للغاية، فقدْ فقدَ والدها ثروته نتيجة انخراطه في العمل الوطني، وأصبحت مجبرة على تدبر أمورها بنفسها، فأبرمت مع شقيقتها برونيسلافا اتفاقاً طريفاً.
هو اتفاق تسافر بموجبه برونيسلافا إلى باريس لدراسة الطب، على أن تعمل ماريا في بولندا لتوفير نفقات أختها، ثم تتبادل الشقيقتان الأدوار بعد عامين! عملت ماريا في البداية مربية لدى أحد المحامين، ثم انتقلت إلى مدينة تشيخانوف للعمل عند عائلة تسورافسكي التي تمتّ بصلة قرابة لوالد ماريا.
نحن نتحدث هنا عن شابة في مقتبل العمر، خفق قلبها لأول مرة بعد لقائها بكازيمير تسورافسكي أحد شباب تلك الأسرة، الذي بادلها الحب أيضاً، لكن يبدو أن نفس تفاصيل القصة الرومانسية الحزينة تتكرر في كل زمان ومكان، لسبب بسيط هو أن الإنسان هو نفسه، في مجاهل الأمازون كما في غياهب سيبيريا وعمق إفريقيا!
رفضت العائلة الميسورة بطبيعة الحال تزويج ابنها من ماريا الفقيرة المعدمة، بل واحتقروها ثم قاموا بطردها من عملها، فحملت قلبها المكسور ورحلت، مسافرة في البداية إلى الشمال، قبل أن تعود إلى والدها في وارسو.
في هذه الأثناء، كانت الشقيقة برونيسلافا قد تدبرت أمورها بشكل جيد في باريس، خاصة بعد زواجها هناك، فبعثت لماريا مراراً وتكراراً تحثها على اللحاق بها إلى فرنسا، بغية تحقيق حلمها بإتمام دراستها، لكن يبدو أن ماريا كانت تحمل في أعماقها أملاً ولو ضعيفاً بأن كازيمير سيتحدى الجميع ويتزوجها.
ولكن هيهات.. توصلت ماريا بخطاب من كازيمير يخبرها فيه بأنه أضعف من أن يواجه عائلته من أجلها، وأنه يتمنى لها حظاً موفقاً مع غيره، إلى آخر هذا الكلام المحبط والمتخاذل الذي لا يقدم ولا يؤخر. وهكذا رضخت ماريا أخيراً، وسافرت إلى باريس باحثة عن دفن حبها الميت بين أكوام الأوراق والكتب.
بعد إقامة قصيرة مع الشقيقة وزوجها، استأجرت ماريا حجرة صغيرة على سطح أحد المنازل، وانهمكت في دراستها للرياضيات والفيزياء والكيمياء بجامعة السوربون التي التحقت بها عام 1891، مزاوجة بين الدراسة نهاراً وإعطاء الدروس الخصوصية مساء لتغطية نفقاتها.
حصلت ماريا في البداية على درجة علمية في الفيزياء عام 1893، ثم أتبعتها بأخرى في الرياضيات بعد عام واحد فقط، في نفس الوقت الذي بدأت فيه أبحاثها حول الخواص المغناطيسية لأنواع الفولاذ، بالتعاون مع الرجل الذي سيقترن اسمها به فيما بعد إلى الأبد. بيير كوري.. كانت ماريا ترغب في العودة إلى بولندا لاستكمال أبحاثها هناك، وبالفعل، استغلت فرصة قضاء العطلة الصيفية في وارسو للتواصل مع جامعة كراكوفيا عارضة خدماتها، لكن الجامعة رفضتها لسبب قد يبدو غريباً بالنسبة للبعض عام 2017:
رفضتها الجامعة فقط لأنها امرأة!
في هذه الأثناء، كانت العلاقة بين ماريا وبيير قد بلغت مراحل متقدمة، فأقنعها هذا الأخير بعدم جدوى انتظار ما قد لا يأتي في بولندا، ونصحها بالعودة إلى فرنسا، فيما نصحته هي باستكمال أبحاثه حول المغناطيسية، فحصل بالفعل على الدكتوراه عام 1895 وتم تعيينه أستاذاً، ليتزوج من ماريا في نفس العام ويواصلا عملهما في نفس المختبر.
أنجبت ماريا طفلتها الأولى إيرين بعد سنتين، مواصلة عملها رفقة زوجها، في غرفة مسقوفة بجوار مدرسة الفيزياء والكيمياء، سيئة التهوية وتنفذ إليها مياه الأمطار، فقد تجاهلتهما مدرسة الأساتذة ورفضت تمويل أبحاثهما، ولم يستفيدا سوى من دعم محدود من بعض شركات الصناعة المعدنية والمنظمات غير الحكومية.
عام 1898 قدم الزوجان ورقة علمية مشتركة يعلنان فيها التوصل إلى عنصر إشعاعي جديد أطلقا عليه اسم البولونيوم تكريماً لبلد ماريا الأصلي رغم كل الجحود والنكران الذي قدمه لها هذا البلد، ثم أعلنا وجود عنصر ثانٍ قاما بتسميته الراديوم.
بعد سنتين أصبحت ماريا (أو ماري باللفظ الفرنسي) أول عضوة في مدرسة الأساتذة العليا، كما تم تعيين زوجها بيير أستاذاً في إحدى كليات جامعة السوربون، وعام 1903 حصلت ماري على درجة الدكتوراه من جامعة باريس وتمت دعوتها رفقة زوجها إلى المعهد الملكي في لندن لإلقاء محاضرة عن النشاط الإشعاعي، لكن تم منعها هي من الحديث.
مرة أخرى فقط لأنها امرأة!
في نفس السنة، أي 1903، حصل بيير وماري وهنري بيكيل على جائزة نوبل في الفيزياء اعترافاً بجهودهم في دراسة ظاهرة الإشعاع المؤين، والمثير للتأمل هنا أن النية كانت في البداية منحها لبيير وهنري فقط، قبل أن يتدخل أحد أعضاء لجنة الجائزة من المدافعين عن النساء للدفاع عن ماري، فكانت بذلك أول امرأة تحصل على الجائزة.
وضعت ماري مولودتها الثانية إيف عام 1904، وبدا أن كل شيء يسير على ما يرام، مبلغ الجائزة مكّن الزوجين من تمويل أبحاثهما إلى حد ما، الأطفال يسافرون إلى بولندا من وقت لآخر ليروا وطن أمهم، وماري تعيش مجد حصول أول امرأة على نوبل.
لكن الحياة كثيراً ما تفاجئ المطمئن لها بما لا يتوقعه.. عام 1906، قتل بيير في حادثة سير بعدما دهسته عربة خيول وكسرت جمجمته، فانهارت ماري ولم تجد العزاء سوى في الجامعة التي قررت منحها كرسي زوجها الراحل، فكانت بذلك أول امرأة تحصل على الأستاذية في جامعة السوربون، وعملت على إنشاء مختبر عالمي يحمل اسم بيير.
واصلت ماري أبحاثها بلا كلل أو ملل، كما لو كانت تعبر عن الوفاء لذكرى زوجها، وتمكنت عام 1910 من فصل عنصر الراديوم، ووضعت تعريفاً لقياس الانبعاثات الإشعاعية، لكنها لم تحصل سوى على صوت واحد أو صوتين في انتخابات الانضمام للأكاديمية الفرنسية للعلوم، التي لم تتمكن امرأة من الالتحاق بها أول مرة إلا عام 1962!
بعد عام واحد فقط، فجّرت صحافة الفضائح الفرنسية مفاجأة من العيار الثقيل، عندما ادعت أن ماري على علاقة ببول لانجفان أحد تلاميذ زوجها المتوفى، وهو المتزوج الذي يصغرها بخمسة أعوام، ويبدو أن الرأي العام الفرنسي العنصري قد وجد ضالته في هذه الإشاعات.
إذ وجّه كل سهام نقده لماري، أولاً لأنها امرأة، وثانياً لأنها بولونية الأصل وليست فرنسية، وثالثاً لأنها يهودية (وهو اتهام خاطئ لأن عائلة ماري كانت كاثوليكية)، فنُعتت بأقبح النعوت، وصُورت زوجة بول كضحية للخيانة، وتحدثت عن استئجار العشيقين لمنزل سري في باريس، إلى غير ذلك من الإشاعات التي وجدت ماري نفسها في قلب دوامتها مباشرة بعد عودتها من مؤتمر في بلجيكا، ففرت بابنتيها إلى منزل أحد الأصدقاء، بعدما طوق المحتجون الغاضبون منزلها، بل ووصل إلى الأمر إلى حدوث اشتباكات بين مؤيديها ومناوئيها!
وسط هذا الإعصار، حدثت المفاجأة بإعلان الأكاديمية السويدية عن حصول ماري على جائزة نوبل ثانية، في الكيمياء هذه المرة، كأول من يحقق هذا الإنجاز في التاريخ، وهنا خالفت ماري توقعات الجميع عندما ذهبت لتسلم الجائزة بنفسها، وبرأس مرفوع، رغم نصح القائمين على الجائزة لها بعدم الحضور تجنباً لآثار "الفضيحة" التي كانت في أوجها آنذاك.
الطريف في الأمر هنا أن الصحافة نفسها التي هاجمتها هي التي احتفت بفوزها، في ازدواجية مقيتة للمعايير، أن يتم تصويرها كأجنبية عندما ترشح لتكريم فرنسي، وفرنسية خالصة عندما يتم ترشيحها لتكريم عالمي!
توفيت ماري عام 1934 متأثرة بمضاعفات إصابتها بفقر الدم اللاتنسجي الناجم عن تعرّضها للإشعاع لسنوات، ودفنت بجانب زوجها، وتم اعتبارها إلى يومنا هذا واحدة من أهم الأيقونات العلمية في العصر الحديث، رغم أن حياتها لم تتلوّن في معظم فتراتها باللون الوردي البهيج.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.