هل أنت سعيد حقاً؟

عربي بوست
تم النشر: 2019/01/16 الساعة 15:01 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/01/16 الساعة 15:57 بتوقيت غرينتش
Young bearded man in eyeglasses and yellow shirt holding hands up in feeling of triumph.

سؤال طرحه رجل في أواخر الثلاثينات على شاب في بداية العشرينات، كان هذا قبل 10 سنوات من الآن. كان السائل معروفاً بدماثة خُلقه وأدبه الجمّ، وكان الشاب مبدعاً ومتألقاً متخطياً أبناء جيله فيما حققه، ينتقل من نجاح إلى آخر بسلاسة وسرعة.

كانا يعملان في المؤسسة ذاتها، عندما أُلقيَ عليه السؤال ارتبك الشاب ووقف يفكر لحظاتٍ، هل ما يفعله يحقق له السعادة المرجوة فعلاً؟! هل خطواته المتتالية في الطريق الصحيح، إذاً لماذا لا يشعر بالسعادة؟!

طال بحثه عن الإجابة فيما لم يوقف قطار أحلامه التي حقق أكثرها، وظل السؤال يراوحه حتى لقي ربه عندما أتمَّ عامه الثلاثين، وكان السائل قد سبقه إلى الموت بعامين لرسالة ظل يدافع عنها طوال حياته.

هل كان سؤال الرجل الطيب للشاب عن شيء افتقده ووجده في عين الأخير فقرر أن ينهل من تجربته؟! أم كان إنذاراً ليوجِّه انتباهه إلى مساحات أخرى في الحياة تستحق الانتباه؟!

اعتقد الشاب دوماً أن الإجابة الثانية هي الأصح، فكَّر فيما ينقصه رغم كونه محاطاً بكثير من أسباب السعادة الحقيقية، ولكنه لم يلحظها في وقتها؛ بل اكتشفها بعد سنوات، فهل حقق كل منهما سعادته على طريقته الخاصة؟ أم أن مفهوم السعادة بحد ذاته لا يمكن الإمساك به أو شرحه؟!

على صفحة أحدهم بمواقع التواصل الاجتماعي، قرأت ذات مرة عبارة تقول: "إذا أردت السعادة فلا تبحث عنها ولا تضيِّع وقتك في اللهاث خلف أسبابها؛ بل عش حياتك وستأتي إليك".

في فندق مجاور للبحر، قضيت أنا وطفلتاي الصغيرتان بضعة أيام، انتظرت تلك الإجازة طويلاً. منذ وصولنا، انشغلت دوماً بخوفي عليهما، خاصة الصغيرة، تلك الشقية التي تنثر بهجتها دوماً، لكنها تتحرك دونما رهبة.

في فندقنا كان المشهد بديعاً، جبل مطلٌّ على بحر، وعلى عتباته المتدرجة تقبع الغرف، كان حظنا في واحدة نرى عبرها احمرار الشمس غروباً وسطوعها شروقاً. حاول القائمون عليه جذب الأنظار فأضافوا مكاناً مخصصاً للألعاب المائية، تضفي الفرحة على الكبار والصغار، لم أرغب في تجربتها قط؛ فأنا أخاف من المياه ولا أجيد السباحة، ولكن قطعاً قضينا فيها معظم وقتنا في الفندق عدا وقت النوم والطعام.

ذهبت ابنتي الكبرى تنتقل من لعبة إلى أخرى، وبقيت الصغيرة لا تستطيع الصعود وحدها، وظلت تحثني على حملها والصعود بها، حاولت التملص، جربت كل الحلول من دون فائدة، وأخيراً حملتها بين يديَّ واعتليت تلك الزلاجة العالية.

اتخذت موقعي قبل الهبوط، ما هذه اللحظة المربكة؟! ماذا سأفعل الآن؟! أودُّ أن أعود نزولاً على تلك السلالم التي ارتقيتها لأصل هنا، كيف سأفعلها أمام هذا الجمع من البشر؟! وهل سينقذني أحدهم لو غرقت؟!

وبينما أنا غارقة في حديثي، كان خلفي طابور من محبي المغامرة ينتظرون، ألقيتُ نظرة لأسفل، تأكدت من إمساكي بالصغيرة، أغمضت عينيَّ وتركت المياه تحملني، بعد ثوانٍ غطست في المياه ورفعت يدي أحمل الصغيرة!

كانت لحظةَ هلع حقيقية.. فيما صرخت هي فرحاً كان قلبي يخفق بقوة، كل ما كان يشغلني خلال تلك الثواني الخاطفة هو لحظة وصولنا للمياه، وهل سألتقطها في الوقت المناسب أم ستفلت مني؟!

تكرر المشهد طوال النهار.. في اليوم التالي فعلنا الأمر ذاته.. في اليوم الثالث جربت التزلج وحدي، لم أكن خائفة، دققت في حركة جسدي نزولاً وأطلقت صرخة ابتهاج، كانت لحظة جميلة، لم أنشغل بالمياه ولا بالسقوط، جربت فقط الاستمتاع باللحظة.

سألت نفسي: ماذا حدث هذه المرة؟! لماذا طعمها مختلف؟ فالزلاجة هي نفسها والمكان بحدوده لم يتغير؟!

ربما ما تغيَّر هو إحساسي بالخفة، فجميع جوارحي كانت مع السقوط لا خوفاً بل فرحاً. في الصباح التالي، علَّمتُ الصغيرة أن تصعد وحدها، وكررنا المشهد ثلاثتنا معاً، ولكن لم تكن أي مرة مثل الأولى؛ ربما لأنها ذروة الاكتشاف.

كتب ميلان كونديرا عن السعادة في روايته "كائن لا تُحتمَل خِفَّتُه"، فقال: "الوقت الإنساني لا يسير في شكل دائري؛ بل يتقدم في خط مستقيم. من هنا، لا يمكن للإنسان أن يكون سعيداً؛ لأن السعادة رغبة في التكرار".

سطرت في مفكرتي ليلاً: "تحيط بنا لحظات سعادة عابرة كثيرة، ولكننا أحياناً لا نستطيع التقاطها في الوقت المناسب، أو ربما لم نعطها الانتباه الذي تستحقه عندما مرت، ننشغل أحياناً بإسعادِ مَن حولنا، ونرى سعادتهم جزءاً من انتشائنا، ولكن لماذا لا نجرب إسعاد أنفسنا معهم؟!".

ليس كل المبتسمين سعداء، فربما يحمل القلب هموماً ثقالاً فيما تنفرج الأسارير بقصد أو من دونه. ولكن ما شغلني يومها هو اختلاف البشر في التعامل مع السعادة، فهناك هؤلاء الذين يجدون في إدخال السرور على الآخرين بهجتهم الوحيدة فيفوِّتون على أنفسهم لحظات كثيرة ممتعة، رغم قربها منهم فإنهم تركوها تمضي من دون اغتنامها.

وهناك من يركزون على سعادتهم وحدهم، يُسَخِّرون مَن حولهم لتلبية احتياجاتهم، ينظرون إلى العالم باعتباره منحة فردية ولا يدعون فرصة تفوتهم إلا وينهلون منها، يعتبرون الناس زهوراً يستنشقون عبيرها ليصنعوا عَسَلهم وينتقلون من زهرة إلى أخرى من دون كلل، ولكن هل يحققون سعادتهم هكذا أم يستغلون مَن حولهم لتحقيقها؟ وهل يشعرون بالسعادة فعلاً؟!

وقد نصادف أيضاً من يستحقون لقب مغناطيس السعادة، يبحثون عنها في كل لحظة، يبتعد هؤلاء عن مصادر النكد والكآبة قدر ما يستطيعون، عندما يصادفون البهجة لا يتوقفون للاستمتاع كثيراً؛ بل يبحثون عن التجربة المبهجة التالية، يدخلون منافسة شرسة مع أنفسهم، قبل الآخرين، ويسألون فوراً: متى اللحظة القادمة؟ نستطيع أن نقول إنهم لا يشبعون، والامتلاء بحد ذاته نشوة.

قد نفتِّش عن مقياس لسعادتنا: متى وصلت للذروة؟ ومتى كانت تحت المستوى المطلوب؟ ننشغل بالبحث عن الاستمتاع كما نريده، تربكنا لحظات الوصول وربما تبعدنا عن المتعة، قد ننتظر طويلاً شخصاً أو شيئاً لتتم سعادتنا، فيما لا ندرك أنه لا يوجد من هو قادر على إسعادنا أكثر من أنفسنا.

وأردف كونديرا في الرواية نفسها: "لا يمكن للإنسان أبداً أن يدرك ماذا عليه أن يفعل؛ لأنه لا يملك إلا حياة واحدة، لا يسعه مقارنتها بِحَيوات سابقة ولا إصلاحها في حيوات لاحقة".

إذا كان للسعادة معنىً، فمتى إذاً نستطيع أن نقول إننا حققناها؟!.

 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

دعاء الشامي
صحفية مصرية
تحميل المزيد