حين يخرج شاب مسلم من بيته بشكل طبيعي، ويتوجه إلى أماكن وجود الناس في إحدى الدول الأجنبية مثلاً، ويقوم بتفجير عبوة ناسفة في جمع من المدنيين في إحدى وسائل المواصلات تقوم الدنيا ولا تقعد. وبالطبع، فإن الدنيا تقوم ولا تقعد أياً كان الفاعل، ولكن الأمر بالنسبة للمنفذ المسلم مختلف، لأن الإسلام برمته يتم وضعه في خانة "الإرهاب"، ويتم تجييش وسائل الإعلام والقنوات السياسية لإدانة هذا الفعل، ووصم الإسلام بـ "الإرهاب".
أحداث مشابهة حصلت في أكثر من مكان في العالم، تمت فيها إدانة الفاعلين، دون أن نقوّم "الإرهاب" المسيحي، أو "الإرهاب" اليهودي. ولذلك كله دلالات نتركها للقارئ للتفكر بها والخروج باستنتاجات حول طبيعة الصراع القائم في العالم بين الأفكار والحضارات.
الشاب الذي خرج لتنفيذ العملية لم يخرج بشكل عفوي ولا تلقائي، بل خرج ضمن خطة محكمة، وهدف محدد، وبالطبع وفق فكر وأيديولوجية تدفعه للقيام بهذا العمل. وكنت قد كتبت في مقال سابق أن هروب المحللين والسياسيين من البحث عن الدوافع والأسباب يمنع الوصول إلى حلول، ولا يؤدي إلى تحقيق السلم والأمن في العالم.
بمعنى آخر، فإن الحلول الأمنية ليست هي الحلول المُثلى لهذه الظاهرة، ولا بد من مراجعة الظروف والأسباب التي تؤدي إلى ذلك. فهل هو الفقر؟ أم هو اليأس؟ أم أن الظلم والقهر والسياسات الاستعمارية ونهب مقدرات الشعوب، وحرمان الإنسان المسلم من الكرامة هي من الأسباب التي تدفع لذلك؟ أيضاً نترك هذا الأمر لعلماء السياسة والاجتماع، ونتركه للمفكرين الذين يتعاملون مع الظواهر بتجرد ووفق منهج علمي.
استرعى انتباهي ما قاله خطيب الجمعة من أن هناك دراسة صدرت في الولايات المتحدة تدعو لمنع التعليم الديني في المدارس في الدول الإسلامية، على اعتبار أن تعليم الدين هو الذي يغذّي الفكر "الإرهابي" والممارسات "الإرهابية" في العالم. ويبدو أن هناك دولاً تتلقَّف مثل هذه الدعوات، وتعمل على تعديل المناهج ومسخ المواد الدينية في المدارس، خاصة أن تلك الدراسات تتحول إلى سياسات وأدوات للحكومة الأمريكية وغيرها من الحكومات الموالية لها.
في المقابل، يقول خطيب الجمعة إن المدارس الدينية في الولايات المتحدة تزايدت 180 مرة خلال الخمسين عاماً الماضية، فيما وصلت نسبة الطلبة في المدارس الدينية في "إسرائيل" إلى حوالي 30%. وبالطبع لا توجد أية دعوات لوقف تعليم الدين في المدارس في الدول غير الإسلامية، بل هناك تشجيع لها.
وعليه، فإن هناك إشكالية في الفهم، هل المدارس الدينية الإسلامية "تُفرّخ" الإرهابيين؟ في حين أن المدارس اليهودية والمسيحية تُخرّج أناساً متسامحين؟ هذا هو التساؤل الذي طرحه خطيب الجمعة بشكل منطقي.
ولكن من المهم ألا نُغفل مجمل الظروف المحيطة بالموضوع، سواء السياسية أو الاجتماعية، وكذلك الثقافة السائدة في ظل تلك الظروف. وهذه هي النقطة التي شغلتني عندما سمعت خطيب الجمعة في مقارنته البعيدة عن الظروف المحيطة والتنشئة الاجتماعية للنشء الجديد. فمما لا شك فيه أنه في أجواء الحرية التي يعيشها الطفل في الدول الغربية، ونخص بالذكر الذي يتعرَّض للتعليم الديني، ينشأ في بيئة تؤهله للحوار والفهم والتفكير والمنطق. فهل مثل هذه الأجواء تتوافر للطفل المسلم؟ فالطفل العربي والمسلم يعيش في بيئة تخيّم عليها ظلمات الجهل والقمع والفقر، وفوق كل ذلك هدر الكرامة الإنسانية، وقتل الروح المعنوية لدى الإنسان، وتحطيم كل بارقة أمل لديه في مستقبل أفضل.
بيئة الاستبداد، الذي يولّد اليأس والخوف، لا يمكن أن تكون مشابهة للبيئة التي تدعو إلى الحوار والمنطق والتعايش. والعلّة هنا ليست في الدين والمنهج، بقدر ما هي في البيئة التي تُغذّي الميول والاتجاهات لدى الإنسان.
وبالطبع، لا يمكن التعميم في هذه الأمور، فهناك من لديهم القدرة على تخطي الظروف للوصول إلى فهم عميق ومنفتح للمفاهيم الواردة في المناهج، ولكن عزل الظروف مسألة استثنائية جداً، إن لم تكن معدومة تماماً.
إن أصابع الاتهام يجب أن تتوجه فقط إلى الظلم والاستبداد الذي يمارسه الغرب، وتمارسه حكومات البلاد الإسلامية في غرس بذرة "الإرهاب" (إن صحّت التسمية)، وفي خروج سلوكيات العنف المرفوض الذي يستهدف الأبرياء في العالم. إن شعوباً بلا أمل ولا مستقبل، ووضعها تحت الضغط الهائل اقتصادياً وسياسياً وأمنياً ونفسياً، سيؤدي بلا شك إلى الانفجار.
والغريب في الأمر أن الغرب، وحتى حكام الدول المسلمة، يهربون من مواجهة هذه الحقيقة، ولا يريدون أن يروا عملية الإبادة البشرية والفكرية في العالم الإسلامي. بل الأنكى من ذلك أن تلك الدول لا تزال تُمعن في القهر والظلم، وتوظف كل إمكاناته لفرض الحلول الأمنية، حتى بات العالم محكوماً بأجهزة الأمن والعسكر والمخابرات.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.